لا خلاص اقتصادي بلا استقرار سياسي

لا خلاص اقتصادي بلا استقرار سياسي

مع إعلان صندوق النقد الدولي دعوته إلى إزالة المتأخرات المالية والعقوبات المفروضة على سورية، بزغت في الأفق آمال لدى بعض الفاعلين السياسيين بأن طريق التعافي الاقتصادي قد يبدأ عبر بوابة المؤسسات المالية الدولية.

لكن هذا التفاؤل يصطدم بجدار من الحقائق المعقدة، التي تجعل من الرهان على دعم صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي رهاناً في غير مكانه وظرفه.
ففي ظل التصدعات العميقة في البنية السياسية والمجتمعية، تبقى الأزمة السورية أكبر من أن تحل عبر مسكنات اقتصادية أو تدفقات مالية مشروطة.
فقد نُقل عن مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد جهاد أزعور، أن سورية بحاجة إلى أمور أساسية في المرحلة الحالية، على رأسها استعادة الاستقرار الأمني والاجتماعي، مستبعداً تقديم منح مالية لسورية، مشيراً إلى أن هناك مساراً لتأمين المساعدة لسورية، تقوم به عدد من دول المنطقة لتمكينها من الالتفات لحاجاتها الأساسية.

غياب الاستقرار البنيوي والسياسي

تفتقر الحكومة الحالية في دمشق إلى ما يمكن تسميته «بالشرعية الشعبية والدستورية» الكاملة.
فهي، وإن كانت تحظى بقبول نسبي، تبقى حكومة أمر واقع، لم تفرزها عملية سياسية جامعة، ولا تملك سيطرة فعلية على كامل الأراضي السورية.
فالمؤسسات الأمنية والعسكرية موزعة الولاء، والنظام الإداري مشلول في كثير من المناطق، وفي مثل هذا السياق، يصبح الحديث عن إصلاحات اقتصادية أو خطط تمويل دولي سابقاً لأوانه وغير مستند إلى بنية مستقرة.

المؤسسات الدولية ليست أدوات تعافي بلا شروط

صندوق النقد والبنك الدولي لا يقدمان المساعدات بشكل إنساني بحت، بل وفق شروط مالية، إدارية، وحوكمة دقيقة.
فمعظم تدخلاتهما تشترط وجود مؤسسات مالية مستقلة، آليات شفافة للمحاسبة، بيئة تشريعية للاستثمار، ونظام مصرفي موثوق، وسورية اليوم تفتقر إلى أغلب هذه العناصر، بل تعاني من انهيار الثقة في الدولة، وانعدام الحد الأدنى من القدرة على تنفيذ سياسات نقدية أو مالية فعالة، بالإضافة طبعاً إلى الكثير من الاشتراطات والقيود الاقتصادية والسياسية التي لم تعد تخفى على أحد بنتائجها الكارثية.

العقوبات أداة سياسية وليست اقتصادية فقط

حتى لو أزيلت العقوبات بشكل جزئي، فإن ذلك لن يترجم فوراً إلى تدفق الأموال أو الاستثمارات.
فالعقوبات المفروضة على سورية ليست مجرد قيود اقتصادية، بل تعكس موقفاً سياسياً دولياً من النظام السابق، وسياسات العنف والفساد التي حكمت البلاد لعقود. ورفعها لا يتطلب تبدل السلطة فقط، بل تغييراً جذرياً في طريقة الحكم، وضمانات فعلية للعدالة الانتقالية، ووقف الانتهاكات، كما يفترض، وفي ظل غياب هذه الشروط، فإن أي تخفيف للعقوبات سيبقى رمزياً ومؤقتاً، هذا بحال صدق النوايا بإنهاء العقوبات فعلاً!

الداخل السوري أولاً ثم الدعم الخارجي

مع عدم التقليل من أهمية شبكة الدعم الإقليمي والدولي، غير المرهون بذات المستوى من الشروط والقيود الخاصة بالمؤسسات المالية الدولية، سواء عبر الصناديق العربية، أو الشراكات مع بعض الدول التي يمكن أن تقدم دعماً مرناً ومباشراً بعيداً عن الرضوخ لإملاءات العقوبات، فإن المعادلة الصحيحة لبدء التعافي السوري يجب أن تبدأ من الداخل من خلال تحقيق الاستقرار الأمني الفعلي، بناء مؤسسات موحدة وشفافة، صياغة عقد اجتماعي جديد يمثل ويرضي التنوع السوري، وتفعيل العدالة الانتقالية. حينذاك فقط، يمكن للمجتمع الدولي أن يرى في سورية شريكاً جاداً وقوياً، لا مجرد ساحة لإدارة الأزمات.
إن الرهان على صندوق النقد الدولي ورفع العقوبات كحل سريع لأزمة سورية الاقتصادية يعبر عن قراءة ساذجة للواقع السياسي والمؤسساتي القائم.
فلا خلاص اقتصادي بلا استقرار سياسي، ولا تعافيَ بالعلاقات الدولية مع سورية بلا تغيير داخلي حقيقي، يستعيد وحدة البلاد وسيادتها، ويصون كرامة مواطنيها.
الطريق طويل، ولا بد أن يبدأ من الداخل السوري، لا من نوافذ المؤسسات الخارجية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1225