حادثة الرشوة في الأحوال المدنية بدمشق... بين الإدانة الأخلاقية والمعالجة الجذرية

حادثة الرشوة في الأحوال المدنية بدمشق... بين الإدانة الأخلاقية والمعالجة الجذرية

أعلنت مديرية الأحوال المدنية في دمشق عن توقيف أحد موظفيها وإحالته إلى التحقيق، بعد تداول مقطع مصور يظهره وهو يتلقى رشوة من إحدى المراجِعات مقابل تسيير معاملة شخصية. وأكد مدير الإدارة، عبد الله العبد الله، أن الإجراءات تمت بسرعة وحزم، مشدداً على رفض المؤسسة لأي ممارسات تمس بالنزاهة أو تستغل الوظيفة العامة لتحقيق مصالح شخصية، وفق ما نقلته «الإخبارية السورية».

ورغم أن إدانة هذه التصرفات أمر لا خلاف عليه، ورغم أهمية إجراءات المحاسبة والتحقيقات الجارية، فإن الحادثة تعيد تسليط الضوء على إشكالية أعمق تتعلق بواقع الرواتب والأجور في القطاع العام، والتي تُعد واحدة من أبرز أسباب تفشي الفساد الإداري في المؤسسات الخدمية.
فالفساد لا يمكن فصله عن السياسات العامة، وفي مقدمتها السياسات الأجرية، التي ساهمت بشكل مباشر في خلق بيئة خصبة للرشوة والانحراف الوظيفي.
فالموظف الذي لا تكفيه أجوره لتأمين الحد الأدنى من احتياجاته المعيشية، يصبح أكثر عرضة للوقوع في إغراءات الرشوة أو استغلال النفوذ.

الفقر الإداري وبيئة العمل الحاضنة للفساد

لا يمكن الحديث عن مكافحة الفساد بشكل فعال دون التطرق إلى البيئة الإدارية التي تسمح بنشوء مثل هذه الممارسات.
فالأجور المتدنية، وضعف آليات الرقابة، وتعقيد الإجراءات، وغياب الحوافز المعنوية والمادية، جميعها تشكل بيئة خصبة يتسلل منها الفساد الإداري.
وتُعد الوظائف التي تتعامل مباشرة مع المواطنين، مثل دوائر الأحوال المدنية وشبيهاتها، من أكثر الميادين عرضة لهذه الاختراقات، نظراً لحاجة الناس الماسة لإتمام معاملاتهم وعدم قدرتهم على تحمل التأخير أو التعقيدات، ما يدفع البعض مرغماً إلى اللجوء إلى «الطرق الملتوية» للحصول على حقه الطبيعي في الخدمة.

الفساد ليس حالة فردية... بل نتاج منظومة

الموظف الذي تم القبض عليه ليس سوى حلقة من سلسلة طويلة من الفساد اليومي الذي كان مألوفاً في الإدارات العامة طيلة عقود، لا بسبب «طبيعة البشر» كما يحاول البعض تبريره، بل نتيجة مباشرة لفشل سلطة النظام الساقطة في تأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة للعاملين في الدولة.
فالأجور الحالية لا تكفي لسد الاحتياجات الأساسية، ومع غياب أي أفق لتحسين مستوى المعيشة أو توفير بيئة مهنية تحترم كرامة العامل، تصبح الرشوة بالنسبة للبعض «فرصة للنجاة» وليست «جريمة أخلاقية».
هذا الواقع لا يعفي أحداً من المسؤولية، لكنه يحمّل الحكومة الحالية المسؤولية الأكبر، ليس لأنها من صاغت هذه المنظومة الفاسدة، بل لاستمرارها دون حلول جذرية.

الحل ليس في العقاب فقط... بل في الإصلاح

معاقبة الموظف المرتشي أمر ضروري، لكنه لا يكفي. فإذا كانت هناك رغبة حقيقية في مكافحة الفساد، فلا يكفي اعتقال الموظفين المرتشين وفضحهم، بل يجب الذهاب مباشرة إلى أصل الخلل في الأسباب البنيوية التي تجعل مثل هذه السلوكيات قابلة للحدوث أصلاً، وهو السياسات الفاسدة، والمتمثلة خاصة بما يلي:
السياسات الأجرية المهينة التي تدفع الموظف إلى الهامش الاجتماعي والمعيشي، والمطلوب بهذا الصدد زيادة الرواتب بما يتناسب مع تكلفة المعيشة، ليتمكن الموظف من العيش بكرامة دون الحاجة إلى البحث عن مصادر دخل مشبوهة.
البيروقراطية المعقدة التي تُغري بالمحسوبيات، والمطلوب إصلاح الهيكل الإداري وآليات العمل، من خلال تبسيط الإجراءات وتقليل البيروقراطية التي تخلق فرصاً للابتزاز والرشوة.
ضعف الرقابة المسبقة وغياب المساءلة الحقيقية داخل المؤسسات، والمطلوب تعزيز الرقابة الاستباقية عبر اعتماد تقنيات المراقبة الذكية، وتفعيل دور الرقابة بجدية، مع نشر ثقافة النزاهة والشفافية من خلال تكريم الموظفين النزيهين والمنضبطين بشكل علني لتحفيز السلوكيات الإيجابية.

العلاج العميق والسياسات العادلة

حادثة الموظف المرتشي في دمشق ليست الأولى وليست استثناءً، بل نتيجة طبيعية لنهج حكم كرّس الفساد كأداة إدارة، لا كظاهرة طارئة، ولن تكون الأخيرة إذا لم يتم التعامل مع جذور المشكلة بجدية.
فالفساد ليس فعلاً فردياً فقط، بل هو نتيجة تراكُمات مؤسسية طويلة تحتاج إلى مراجعة شاملة، فالكرامة لا تُصان ببيانات وأخبار الإدانة، بل بسياسات عادلة تضع الموظف الحكومي والمواطن صاحب الحاجة في قلب الوظيفة العامة، لا على هامشها.
إن أي محاولة للإصلاح ستبقى سطحية إن لم تبدأ بمعالجة عمق المنظومة وسياساتها الفاشلة والمفسدة، وإصلاح الأجور، وتحديث الإدارة، وتعزيز الرقابة، تمثل خطوات أساسية في طريق استعادة ثقة المواطن بمؤسسات الدولة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1225