اللاجئون السوريون بين الابتزاز السياسي والواقع غير المؤهل للعودة
لا يزال ملف اللاجئين السوريين ورقة ضغط واستثمار سياسي، لكنه اليوم يُطرح بأسلوب جديد، يحمل في طياته إغراءات سياسية وتلميحات بإجراءات صارمة، دون مراعاة للواقع الميداني في سورية.
فما كشفته صحيفة بيلد الألمانية عن نية وزيرة الداخلية نانسي فيزر زيارة دمشق والتفاوض مع الحكومة الانتقالية حول إعادة اللاجئين السوريين يعكس استمرار استخدام هذا الملف كأداة للضغط السياسي، سواء داخلياً لمخاطبة الرأي العام الألماني، أو خارجياً ضمن ترتيبات تتعلق بالسياسات الأوروبية تجاه سورية.
ابتزاز سياسي بواجهة جديدة
ملف اللاجئين كان ولا يزال ورقة مساومة تستخدمها الحكومات الأوروبية، وغيرها من الحكومات الأخرى، لتحقيق مكاسب داخلية وخارجية.
ففي الداخل الألماني، تواجه الحكومة ضغوطاً متزايدة من الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تطالب بترحيل اللاجئين، وهو ما يجعل الحكومة الحالية مضطرة لاتخاذ خطوات لامتصاص الغضب الشعبي، حتى لو لم تكن هذه الخطوات واقعية أو إنسانية.
أما خارجياً، فإعادة اللاجئين تُطرح اليوم كجزء من التفاوض على مقاربة جديدة مع دمشق، رغم أن الظروف في سورية لم تتغير بما يبرر هذه العودة الجماعية القسرية.
فالتركيز على الأعباء الاقتصادية التي يشكلها اللاجئون، كما أشارت بيلد في تقريرها، ومع عدم التقليل من هذه الأعباء طبعاً، يظهر وكأن القضية تُناقش فقط من منظور مالي، متجاهلة حقيقة أن هؤلاء اللاجئين فروا من واقع دمر حياتهم بالكامل، ومن حقيقة أخرى أن الدول الأوربية مارست عمليات انتقائية بقبولها ورفضها للاجئين خلال السنين الماضية من بوابة مصالحها وباسم الإنسانية، فقد استقطبت الكثير من الكوادر العلمية السورية بتكاليف صفرية، والكثير من الأيدي العاملة الشابة والمدربة دون تكاليف تذكر.
فالمعادلة اليوم واضحة، الدول الأوروبية تريد التخلص من أعباء اللجوء بأي طريقة، حتى لو كان ذلك على حساب سلامة اللاجئين وحقوقهم.
العودة إلى واقع غير مؤهل
رغم الطروحات الأوروبية بضرورة إعادة السوريين إلى بلدهم، ورغم الضرورات الوطنية السورية التي تؤكد على أهمية عودة اللاجئين بأسرع وقت كي يساهموا في بناء بلدهم مجدداً، إلا أن الواقع يؤكد أن سورية ما زالت غير قادرة على استيعاب العائدين حالياً، لا من حيث البنية التحتية، ولا من حيث الاقتصاد، ولا من حيث عوامل الأمان والاستقرار.
فالكثير من المناطق السورية ما زالت مدمرة بشكل شبه كامل، والسكان يعانون من أزمة سكن خانقة، فما بالك بمئات الآلاف من اللاجئين الذين فقدوا منازلهم أساساً؟ أين سيسكنون؟ وهل هناك خطط حقيقية لإعادة الإعمار بشكل يسمح بعودتهم؟
كذلك فإن الاقتصاد السوري يرزح تحت وطأة العقوبات، ويفتقر إلى الموارد الكافية لإنعاش القطاعات الحيوية، وخاصة قطاع الطاقة وقطاعات الإنتاج، ومعدلات البطالة مرتفعة للغاية، وحتى من تبقى داخل سورية يواجهون صعوبة في تأمين احتياجاتهم المعيشية والخدمية الأساسية، فكيف يمكن إعادة مئات الآلاف من اللاجئين إلى بلد يعاني من شلل اقتصادي شبه كامل؟
يضاف الى ما سبق غياب الخدمات وضعف البنية التحتية، من الكهرباء إلى المياه، ومن المواصلات إلى الصحة الى التعليم، فالبنية التحتية في سورية لم تُرمم بشكل يتيح استيعاب أعداد كبيرة من العائدين، وحتى أبسط الخدمات الأساسية غير متوفرة بشكل منتظم، والعودة إلى مثل هذه الظروف لن تكون إلا إعادة إنتاج للجوء الداخلي أو للهجرة مجدداً عبر طرق أكثر خطورة.
وكذلك لا يمكن الحديث عن إعادة اللاجئين دون ضمانات حقيقية لسلامتهم، فحتى اليوم، لا تزال هناك مخاوف جدية حول مصير العائدين، خاصة في ظل تقارير تتحدث عن تزايد عمليات الخطف من أجل الفدية والقتل انتقاماً وثأراً، وفي ظل هذه الظروف فإن أي حديث عن إعادة اللاجئين دون ضمانات حقيقية وواقعية ملموسة يبقى مجرد طرح سياسي لا يأخذ الواقع بعين الاعتبار.
الابتزاز والضغط السياسي يتجاوز ملف اللاجئين
قد يقول قائل إن كل ما سبق من مبررات لعدم إمكانية عودة اللاجئين لا يعني الأوربيين، فهو ليس من مسؤوليتهم وليس من واجباتهم، لكن في ذلك القول حقيقة مغيبة لا تقل سوءاً عن الاستثمار والابتزاز السياسي في ملف اللاجئين.
فالعقوبات ما زالت ورقة ضغط وابتزاز سياسي بيد الأوربيين تمنع وتحد من إمكانية استعادة عجلة الاقتصاد والإنتاج في البلاد، وبالتالي تعيق وتحد من عودة اللاجئين.
وكذلك الأموال السورية المجمدة لدى الأوربيين والتي يتم استخدامها كورقة ضغط وابتزاز سياسي أيضاً، والكثير من أدوات ووسائل الضغط الأخرى التي تحول بمجملها دون إمكانية تجاوز الأزمات المتكاثرة في الداخل السوري، وبالتالي فهي لا تعيق عودة اللاجئين فقط، بل وتعيق الحلول المستدامة لسورية.
وكما أن حقيقة إعاقات عودة اللاجئين سابقة الذكر معروفة ومدركة من الأوربيين، فإن الضغوط والابتزاز هي الحقيقة الأخرى المغيبة والمسكوت عنها، علماً أنها الأكثر أهمية بتأثيرها على السوريين، داخلاً وخارجاً، وعلى مستقبل سورية.
الحاجة إلى حلول حقيقية
ما يحتاجه السوريون اليوم ليس مجرد حديث عن العودة، بل حلولاً حقيقية تضمن لهم حياة كريمة، سواء في أماكن لجوئهم أو في حال قرروا العودة إلى وطنهم.
فالضغط الأوروبي لإعادة اللاجئين السوريين، رغم أن الظروف لا تزال غير مهيأة، يعكس استمرار توظيف هذا الملف سياسياً واقتصادياً.
فرغم أن الحكومات الأوروبية تحاول تصوير الأمر على أنه ضرورة لتخفيف العبء المالي، إلا أن الواقع يثبت أن إعادة اللاجئين إلى سورية في ظل الأوضاع الحالية، وفي ظل استمرار الابتزاز والضغط السياسي، تعني ببساطة دفعهم إلى مزيد من المعاناة، وبالتالي الدفع إلى مزيد من الاحتقان المجتمعي في الداخل السوري مجدداً.
وبكل اختصار يمكن القول إن بدء الحلول الحقيقية، بما في ذلك تخفيف عوامل الاحتقان المجتمعي، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يتمثل بعقد المؤتمر الوطني العام الذي يفسح المجال أمام السوريين لتقرير مصيرهم ومستقبلهم بأنفسهم، وهو العامل الحاسم في تخفيف حدة الضغوط وممارسات الابتزاز السياسي الممارس عليهم من الأوربيين وسواهم، ليس بملف اللاجئين وغيره من الملفات، بل وصولاً إلى سيادة واستقلال القرار الوطني بشكل ناجز.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1218