التقييم التشاؤمي للتعافي الاقتصادي والحاجة إلى نموذج اقتصادي وطني فاعل
تقرير الأمم المتحدة الأخير حول مستقبل التعافي الاقتصادي في سورية قدم رؤية قاتمة للوضع الحالي، حيث قدر أن البلاد بحاجة إلى أكثر من 50 عاماً لاستعادة مستوياتها الاقتصادية قبل الحرب، إذا استمر النمو عند 1,3% سنوياً.
هذا الطرح يحمل في طياته مساراً يكرس استمرار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية إلى عقود طويلة، ويعني فعلياً أن سورية لن تقف على قدميها مجدداً!
لكنه في الوقت ذاته يتجاهل إمكانية بناء نموذج اقتصادي وطني بديل، قادر على تحقيق نسب نمو مرتفعة تسرع عملية التعافي، وتعيد بناء الاقتصاد على أسس أكثر استدامة وعدالة.
نهج الدردري وسياسات الإفقار... الاستمرار في دفع الثمن
تقرير الأمم المتحدة يتوافق مع رؤية عبد الله الدردري، التي تستند إلى إعادة الهيكلة الاقتصادية وفق سياسات السوق المفتوحة، وتحرير الدعم، وخصخصة القطاعات الحيوية.
هذه السياسات، التي تم تطبيقها قبل الحرب، كانت أحد العوامل التي ساهمت في تفاقم التفاوت الاجتماعي وزيادة هشاشة الاقتصاد السوري أمام الأزمات، وكانت العامل الأساسي في تفجير الأزمة.
والآن، يأتي التقرير ليكرس النهج نفسه عبر الحديث عن عقود طويلة من التعافي البطيء، مما يعني استمرار استنزاف الموارد السورية، وتعميم الفقر، وإضعاف قدرة الدولة على حماية اقتصادها ومقدراتها.
إذاً، القبول بهذا المسار يعني أن سورية ستظل عرضة لنهب مقدراتها، في ظل بيئة اقتصادية غير قادرة على تحقيق التنمية المستدامة، بل إن استمرار هذا النهج سيؤدي إلى مزيد من الهجرة، وانهيار البنية الإنتاجية، وزيادة التبعية الاقتصادية للخارج.
الحل يكمن بنموذج اقتصادي وطني بمعدلات نمو تفوق 10%
مقابل هذه الرؤية التشاؤمية، تفرض الأرقام المطروحة في التقرير ضرورة تبني نموذج اقتصادي وطني، يحقق معدلات نمو لا تقل عن 10% سنوياً، عبر حسن استثمار الموارد الذاتية، وخاصة الإنتاج الزراعي والصناعي، إلى جانب خلق بيئة استثمارية جاذبة تضمن المصلحة الوطنية، لا مصلحة الشركات الأجنبية أو المؤسسات المالية الدولية.
والركائز الأساسية لهذا النموذج يمكن اختصارها بالنقاط التالية:
إعادة بناء الزراعة كقاطرة للاقتصاد، فقد أشار التقرير إلى أزمة القمح وتهديد الأمن الغذائي، ما يستوجب العودة إلى سياسات دعم الإنتاج الزراعي المحلي، وتأمين مستلزماته، والحد من الاعتماد على الاستيراد. فتحقيق الاكتفاء الذاتي في الحبوب والمنتجات الزراعية الأساسية يمكن أن يكون نقطة ارتكاز لاستعادة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
إحياء القطاع الصناعي المحلي، فانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 50% يؤكد أن الاقتصاد بحاجة إلى إعادة تشغيل المصانع وتعزيز الصناعات التحويلية التي يمكن أن توفر فرص عمل واسعة، وتقلل الاعتماد على الاستيراد، وتعزز الصادرات، وبالتالي تدعم استقرار الليرة السورية.
توجيه الاستثمارات نحو المشاريع الوطنية المنتجة بدلاً من الانسياق وراء استثمارات تهدف إلى الربح السريع، حيث يجب تشجيع رؤوس الأموال الوطنية على الاستثمار في مشاريع استراتيجية، مثل الطاقات البديلة، والتصنيع الزراعي، والصناعات الثقيلة، بما يخلق دورة اقتصادية متماسكة.
إعادة تأهيل البنية التحتية بشكل متوازن، حيث أشار التقرير إلى تضرر 70% من محطات توليد الكهرباء، ما يعني أن أي نهضة اقتصادية تستوجب إعادة بناء قطاع الطاقة بطرق مستدامة، وحسن الاستفادة من الاستثمار في الطاقة الشمسية والرياح.
سياسة نقدية تدعم الإنتاج لا المضاربات، فاستمرار الأزمة النقدية هو نتيجة طبيعية لاقتصاد ضعيف الإنتاج. لذلك، يجب توجيه القروض المصرفية إلى المشاريع الصناعية والزراعية بدلاً من المضاربات العقارية والتجارية غير المنتجة.
إمكانات النمو السريع تجارب عالمية سابقة
تجارب دول مرت بأزمات كبرى، مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وكوريا الجنوبية بعد الحرب الكورية، وحتى فيتنام بعد حربها الطويلة، تؤكد أن تحقيق نسب نمو تتجاوز 10% ليس مستحيلاً.
الفرق هو أن تلك الدول تبنت سياسات اقتصادية تحمي مصالحها الوطنية، وتعتمد على مواردها الذاتية، وتوجه الاستثمارات نحو الإنتاج لا الاستهلاك أو المضاربات المالية.
إذاً، المسألة ليست أن سورية تحتاج إلى 50 عاماً للتعافي، بل إن استمرار السياسات الحالية سيجعل التعافي مستحيلاً!
فالمطلوب هو الخروج من هذا المسار عبر تبني سياسات اقتصادية وطنية حقيقية، تستعيد الإنتاج، وتحفز النمو، وتضع البلاد على مسار التنمية الفعلية بدلاً من الرضوخ لمنطق الإفقار والتبعية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1216