السياسات التعليمية وتكريس التراجع والتخلف المجتمعي!
يرتبط مفهوم الارتقاء والتطور والتقدم في أي مجتمع، بأحد جوانبه الرئيسية، بدرجة تطور وارتقاء النظام التعليمي فيه.
فما هو الحال لدينا في ظل السياسات التعليمية المطبقة، مع غيرها من السياسات، والتي كان من نتائجها تجريد العملية التعليمية من قدسيتها، وتحويلها من مهمة بناء جيل ومجتمع لأداة لتعزيز الفرز الطبقي فيه، ولمهنة تكسب واسترزاق، وبوابة مشرعة للفساد؟!
فالتراجع على مستوى النظام التعليمي والعملية التعليمية سيؤدي من كل بدّ إلى تسجيل المزيد من التراجع على المستويات كافة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية و...، وبعلم ودراية الحكومة والرسميين، مع الإصرار على المضي بهذه السياسات بغض النظر عن نتائجها الكارثية على المواطن وعلى الدولة والمجتمع!
القطاع التعليمي اليوم!
خلّفت السياسات الحكومية، خلال العقود الماضية وحتى الآن، الكثير من السلبيات الكارثية التي أنهكت قطاع التعليم العامّ المجاني افتراضاً، وأودت بالمنظومة التعليمية فيه نحو الهاوية، فهي لم تعكس فقط سوء التخطيط والإدارة، بل عمّقت الفوارق الاجتماعية عبر سياسات الفرز الطبقي، مع السعي إلى تطفيش الكوادر المؤهلة عبر السياسات الأجرية الظالمة والمجحفة، بالإضافة إلى آليات التعيين وترميم الشواغر غير العادلة، مع عدم إغفال سياسات تخفيض الإنفاق العام وما أورثته من تدهور بالعملية التعليمية ومستلزماتها وضروراتها، بدءاً من البنية التحتية للعديد من المدارس (الباحات والبناء المدرسي والقاعات الصفية ودورات المياه وشبكات الكهرباء...) بالإضافة إلى النقص الحادّ في التجهيزات الأساسية واللوازم التعليمية، كالسبورة والمقعد والأقلام والأوراق، حتى دفتر المعلم ودفتر العلامات بات يتعين على الطلاب جمع ثمنها في العديد من المدارس، هذا بالإضافة إلى انتشار المحسوبيات والوساطات وأوجه الفساد وطرق الالتفاف على القوانين والتعليمات!
بالمقابل، وفي الوقت الذي يغرق فيه قطاع التعليم الحكومي العام بالتراجع والترهل، يبدو الازدهار ملحوظاً في قطاع التعليم الخاص، بغطاء ودعم حكومي مباشر وغير مباشر، بدءاً من تقديم الكثير من التسهيلات والمشجعات، وليس انتهاءً بتخفيف القيود الرقابية وغض الطرف عن الكثير من المخالفات فيه، وصولاً إلى تقاضي رسوم بعشرات الملايين سنوياً عن كل طالب، والغطاء المشرعن لذلك يتمثل بالمواصلات والخدمات الإضافية التي تقدمها المؤسسات التعليمية الخاصة!
فمجانية التعليم في المدارس العامة أصبحت عبارة جوفاء في ظل تفشي أنماط الجباية المباشرة وغير المباشرة فيها، وفي ظل الإهمال المتعمد للكوادر التدريسية ومتطلباتها، أجوراً وتعويضات وتأهيل مستمر لزيادة كفاءتها، بالإضافة إلى النقص الكبير في أعدادها، حيث بنتيجة كل ما سبق تراجعت الثقة بقطاع التعليم العام، الأمر الذي أدى إلى دفع بعض ذوي الطلاب للتوجه للتعليم الخاص المكلف، كبديل لمن استطاع إليه سبيلاً من المقتدرين، فيما بقي الخيار المتاح أمام أبناء الغالبية المفقرة التوجه مبكراً لسوق العمل بسبب الوضع الاقتصادي المعاشي المتردي الذي يعانونه ، بسبب السياسات الظالمة نفسها!
نقص في الكوادر أم سياسات تطفيش عامة!
تواصلنا مع بعض الطلاب وذويهم في منطقة جرمانا بريف دمشق، حيث بيّن لنا هؤلاء مدى سوء الوضع في المدارس العامة!
فحسب حديثهم تم فرز المدرسين الموجودين في بعض المدارس لصفي الثالث الإعدادي والثالث الثانوي على اعتبار أنها صفوف شهادات، أما باقي المراحل فجرى تجاهلها، ليحظى بعضها بمدرس وكيل قليل الخبرة بعد شهرين وثلاثة أشهر من بداية العام الدراسي!
أما المضحك المبكي فهو تبرع آباء وأمهات بعض الطلاب لإعطاء بعض الدروس، فقد أكدت لنا طالبات في صف الأول الثانوي في إحدى المدارس قيام والد زميلتهم، وهو مهندس، بإعطائهم مقرر العلوم، في حين قامت والدة تلميذة أخرى، من أصول روسية، بإعطاء مقرر اللغة الروسية لطلاب السابع!
الواقع المرصود أعلاه مأساوي، بل وشديد المأساوية، خاصة مع تعميمه على المدارس في الكثير من البلدات والقرى والمناطق، ومما لا شك فيه أن الأسباب باتت معروفة للجميع!
فقد كشف مدير تربية ريف دمشق عبد الحليم يوسف عبر برنامج «حديث النهار» في إذاعة شام إف إم عن وجود نقص كبير في أعداد المعلمين بمدارس ريف دمشق، ففي الحلقة الأولى، وحسب تصريحات مدير التربية، تصل الحاجة إلى أكثر من 500 مدرس، بالإضافة إلى النقص الكبير بالاختصاصات العلمية!
وأضاف مدير التربية أيضاً «إن واحداً من أسباب نقص المدرسين هو قلة الأجور، إذ يصل راتب المعلم في الحد الأعلى إلى 500 ألف ليرة!
ليس هذا وحسب، فبالإضافة إلى تدني الأجور الكبير هناك تغييب لنظام التحفيز والتعويضات، وانتشار المحسوبيات والوساطات، خاصةً فيما يتعلق بطرق وآليات التعيين لترميم النقص، سواء عبر المسابقات أو من خلال الوكالة!
وبكل اختصار يمكن القول إن سياسات التطفيش والإهمال المتعمد التي يتم اتباعها رسمياً تدفع بالمعلمين والمدرسين المؤهلين نحو مؤسسات التعليم في القطاع الخاص، بمحاولة يائسة منهم لسد رمقهم، في حين آثر بعضهم العزوف عن مهنة التعليم وامتهان مهنة أخرى تضمن لهم قوت يومهم!
نقص الكتاب المدرسي!
الكتاب المدرسي ليس مجرد أداة تعليمية، بل هو جسر نحو المعرفة، وضمان توفره يُعد أحد أهم أدوات التعليم، إلا أن سياسات خفض الإنفاق أدت إلى ضعف التمويل المخصص لطباعة الكتب المدرسية من جهة، ليأتي سوء التخطيط وضعف الإدارة في توزيع الكتب المدرسية ويزيد من تفاقم المشكلة!
فهناك الكثير من الكتب لم يتم توزيعها في العديد من المدارس العامة حتى تاريخه، بحسب بعض الطلاب، علماً أن بعض الموزع منها يعتبر تالفاً ومستهلكاً وغير صالح، والمشكلة تبدو أكبر بعدم توفر بعض الكتب في المراكز والمستودعات الرسمية المعتمدة!
فمع اقتراب موعد الامتحانات النصفية وجد العديد من الطلاب أنفسهم أمام خيار تصوير الكتاب المدرسي بأسعار باهظة، أو شرائه بأسعار خيالية، مما زاد من الأعباء على كاهل الطلاب وذويهم في ظل الوضع المعيشي الصعب!
التعلم حق وليس خدمة كبقية الخدمات العامة!
التعليم ليس مجرد خدمة حكومية تقدم كبقية الخدمات العامة مع التمنين فيها، بل هو حق ومسؤولية وواجب على عاتق الدولة ضمانه، مع ضمان مجانيته بمراحله كافة، فهذا الحق مصون دستوراً ومحمي قانوناً كما يفترض، وعلى الحكومة الالتزام بذلك!
لكن مع استمرار الحكومة بتطبيق سياساتها الظالمة والتمييزية ذاتها، والإصرار على منهجيتها المتبعة تجاه قطاع التعليم العام، فلا شك أننا أمام كارثة حقيقية، لن تقف عند حدود زيادة انتشار الجهل والأمية، وخاصة بين أوساط الغالبية المفقرة العاجزة عن تحمل تكاليف التعلم في القطاع الخاص، بل أيضاً بتكريس خسارة كادرنا البشري وثروتنا الحقيقية من أطباء ومهندسين اقتصاديين ومحامين ومعلمين.. نبذاً وتطفيشاً!
فما قامت وتقوم به الحكومات المتعاقبة من خلال الإصرار على السياسات التعليمية، المجحفة والطبقية والتميزية، لا يؤدي إلى الارتقاء والتطور والتقدم في المجتمع فحسب، بل إلى تكريس المزيد من التراجع والتخلف والإفقار فيه!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1202