الحكومة تروّج لاستقطاب الاستثمارات وتكرس عوامل نبذها!
ما زالت البيئة الاستثمارية السورية توصف بأنها غير مشجعة، بل ونابذة، بالرغم من كثرة الحديث الرسمي عن التسهيلات والمشجعات القانونية لاستقطاب الاستثمارات، فهي غير آمنة إلى حد كبير من الناحية الاقتصادية والقانونية، بل والسياسية، بالإضافة طبعاً إلى الناحية الاجتماعية ونمط الاستهلاك الذي تم تشويهه خلال سنوات الأزمة بفعل السياسات الليبرالية، التي استهدفت وما زلت تستهدف جيوب السوريين وتفرغها!
وبالتالي فإن هذه البيئة غير مشجعة للمستثمرين المحليين، ولا مستقطبة للخارجيين!
ومن المؤشرات الملموسة لواقع العزوف الاستثماري، يمكن سرد الكثير من المشاكل التي تعيق وتُكَبِّل الاستثمارات، مثل: ارتفاع تكاليف الإنتاج- ارتفاع تكاليف حوامل الطاقة وصعوبة الوصول إلى الكهرباء- ميل معدلات الاستهلاك نحو الانخفاض سنة بعد أخرى نتيجة لتدهور الحالة المعيشية لعموم السوريين- انخفاض عائدية الاستثمار!
انخفاض الموازنة أم انتعاش استثماري؟!
عقد المجلس الأعلى للاستثمار بتاريخ 31/10/2024 اجتماعه برئاسة رئيس الحكومة، وتم عرض جملة من المؤشرات التي توحي بحدوث ثورة كبرى في الواقع الاستثماري، منها مثلاً القول بأن: «قيمة الاستثمارات المشمّلة وفق أحكام قانون الاستثمار رقم 18 لعام 2021 تجاوزت بمجموعها قيمة اعتمادات الموازنة العامة للدولة لعام 2025 والتي تعد أكبر موازنة في تاريخ الاقتصاد الوطني، إذ بلغت قيمة اعتمادات الموازنة 52 ألف مليار ليرة سورية، فيما بلغت قيمة المشاريع الاستثمارية المشمّلة في العام الحالي ما يقارب 62 ألف مليار ليرة.»
وتم خلال الاجتماع أيضاً عرض النقاط الآتية:
إجازات الاستثمار الممنوحة وفق أحكام قانون الاستثمار 18 لعام 2021 بلغ عددها نحو 196 إجازة في قطاعات النقل والطاقة المتجددة والسياحة والصناعة والزراعة والصحة بتكلفة تقديرية 65 تريليون ليرة.
بلغ عدد المشاريع التي بدأت بالإنتاج الفعلي بشكل (جزئي- كلي) 30 مشروعاً استثمارياً بنسبة 15% من العدد الإجمالي للمشاريع الحاصلة على إجازات استثمار، بتكلفة استثمارية 1205 مليارات ليرة.
إنّ التفاؤل الرقمي أعلاه يبدو حقيقياً عند مقارنة قيمة إجازات الاستثمار الممنوحة، مع القيمة التقديرية للموازنة العامة للدولة للعام 2025!
فهل هذا يدل على انخفاض قيمة الموازنة، أم على انتعاش الاستثمار كما يُروَّج؟!
لن نخوض مجدداً في موضوعة تراجع قيمة الموازنة العامة لعام 2025 بالمقارنة مع السنوات السابقة، حيث سبق أن تطرّقت لها قاسيون في مواد عديدة!
لكن للتقييم الموضوعي لا بد من مقارنة قيمة الاستثمارات نفسها بفترات زمنية مختلفة.
فمثلاً، من التقرير السنوي لهيئة الاستثمار للعام 2008 نورد الآتي:
بلغت قيمة إجازات الاستثمار الممنوحة وفق المرسوم التشريعي 8 للعام 2007 نحو 402 مليار ليرة، وبتحويلها إلى معادلها الدولاري وفقاً لسعر الصرف في عام 2008، والذي بلغ 46.4 بحسب بيانات البنك المركزي، فإنها تبلغ نحو8.6 مليارات دولار لـ161 مشروعاً.
بلغت قيمة المشروعات المنفذة نحو 45 مليار ليرة من إجمالي المشروعات، وبنسبة تنفيذ 11% على مستوى القيمة المالية، أما عدد المشروعات فبلغ 60 مشروعاً من أصل 219، أي 27.3%، وذلك على مستوى المشاريع المشملة للمرسوم 8 فقط، من دون المشاريع المشملة لقوانين أخرى مثل قانون الاستثمار رقم 10 للعام 1991.
وللمقارنة، وبحسب الأرقام «شديدة التفاؤل» أعلاه، بلغت المشاريع المنفذة 15% من إجمالي عدد المشاريع، ولكنها بالنسبة لإجمالي قيمة المشروعات المشمّلة، اقتصرت قيمتها على 1.85%، أي 1205 مليار ليرة من أصل 65 ترليون ليرة (والتي تعادل 4,7 مليارات دولار وفق سعر الصرف الرسمي الحالي)!
يتبين بحسب الأرقام أعلاه أن المشاريع في عام 2008 قيمتها ضعف قيمة المشاريع التي يتم الحديث عنها الآن!
فالحديث عن «أكبر موازنة في تاريخ الاقتصاد الوطني»، ربطاً مع «قيمة المشاريع الاستثمارية المشمّلة في العام الحالي»، فيه الكثير من التضخيم للموازنة نفسها، ولقيم المشاريع الاستثمارية!
تراجع الإنتاجي وزيادة الخدمي!
نقطة إضافية تجدر الإشارة إليها مما رشح عن أعمال المجلس الأعلى للاستثمار هي العبارة التالية: «ضعف نسبة الإقبال على القطاع الزراعي، إذ بلغت نسبة المشاريع الممنوحة إجازة استثمار في القطاع الزراعي فقط 5% مقارنة بـ 43% في قطاع النقل مثلاً»!
المؤشرات أعلاه دليل على تراجع الاستثمار في الإنتاج، مقابل زيادته في الخدمات!
حيث يلجأ المستثمرون إلى القطاعات الخدمية كالنقل، ربما بسبب الخطورة العالية في القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة، وبالتالي يهرب المستثمرون من هذه القطاعات ويتوجهون إلى القطاعات الخدمية التي تتميز بسرعة دوران رأس المال، وبمعدلات الربح المرتفعة، وبالخطورة الأقل في ظل بيئة استثمارية غير آمنة!
المؤشرات الدولية!
وفقاً لتقرير سهولة ممارسة الأعمال لعام 2020 تقبع سورية في المرتبة 176 من أصل 190 دولة، ما يعني أن ممارسة الأعمال تعاني من صعوبة مفرطة ومعيقات كبيرة!
«ومؤشر سهولة ممارسة الأعمال»، الذي يهدف إلى قياس وتقييم بيئة الأعمال في مختلف الدول (190 اقتصاد حول العالم) وسورية ضمناً، هو مقياس عالمي يصدره البنك الدولي وذلك بناء على مجموعة من المعايير، كما يلي: بدء النشاط الاستثماري أو تأسيس الشركات- الحصول على تصريح البناء- الحصول على الكهرباء- تسجيل الممتلكات- الحصول على الائتمان- حماية المستثمرين- دفع الضرائب- التجارة الخارجية- تنفيذ العقود- الإنقاذ من الإفلاس- سوق العمل- العمل مع الحكومة (البيع والشراء).
وفي تفصيلات المؤشر على المستوى المحلي فإن الأكثر سوءاً هو الحصول على تصريح البناء، حيث تحتل سورية المرتبة 186، يليه معيار التجارة الخارجية في المرتبة 178، ثم معيار الحصول على الائتمان في المرتبة 176، أما بالنسبة لمعيار سهولة الوصول إلى الكهرباء فإن سورية في المرتبة 160!
ومع أنّ هيئة الاستثمار السورية تدرج في تقاريرها السنوية ترتيب سورية وفقاً لهذا المؤشر، إلا أن ذلك لا يقترن بأية إجراءات رسمية جدية لتحسين الواقع الاستثماري وفق المعايير أعلاه، مما يجعل الحديث عن الترويج الاستثماري منفصلاً عن الواقع، حيث يمكن تسمية المؤشر محلياً بمؤشر «صعوبة أو تعقيد أو استحالة ممارسة الأعمال»، خاصة، إن أضفنا إلى المعايير الدولية أعلاه بعض المعايير المحلية، مثل: عامل التضخم وعامل الفساد، والأهم عامل عدم الاستقرار السياسي!
بعض المؤشرات المحلية الإضافية!
من المفروغ منه أن أي مستثمر لن تغيب عن ذهنه بعض مؤشرات الاقتصاد الكلي الرقمية، بحال الرغبة بالاستثمار بأي من القطاعات الاستثمارية محلياً!
فمثلاً، بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء:
بلغت قيمة رأس المال الزراعي الثابت في عام 2020 نحو 24.9 مليار ليرة، والناتج المحلي الزراعي كان نحو 106مليار ليرة.
زادت قيمة رأس المال الثابت في عام 2022 بنحو 135%، وبلغت 58.5 مليار ليرة، لكن انخفض الناتج المحلي الزراعي بحدود 16%، وبلغ نحو89.2 مليار ليرة!
الاستنتاج المباشر من الأرقام أعلاه تبين أن زيادة الاستثمار في القطاع الزراعي (العام والخاص) تؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي، وهو دليل فاقع وواضح على تراجع الجدوى الاستثمارية في هذا القطاع، وبالتالي فإن المستثمر لن يغامر فيه!
ودون الخوض بالمزيد من الأرقام فإن بيانات قطاع الإنتاج الصناعي ليست بأفضل حالاً، لكن بيانات قطاع الخدمات، وتحديداً النقل والتخزين، ما زالت تعتبر أفضل نسبياً من حيث الجدوى الاستثمارية، لذلك فليس من المستغرب أن تستقطب هذه القطاعات بعض الاستثمارات، بينما تنفر من القطاعات الإنتاجية، وهو ما يجري!
وبكل اختصار يمكن القول إن الواقع والمؤشرات أعلاه هي النتيجة المباشرة للسياسات الاقتصادية المتبعة، وخاصة تجاه قطاعات الإنتاج الحقيقي (الزراعي والصناعي- العام والخاص)، والتي أدت إلى تراجع الإنتاج بشكل عام، وصولاً إلى توقف بعض المنشآت الصناعية والعزوف عن الزراعة، وتتويجاً بتكريس بيئة استثمارية نابذة وطاردة، وكل ذلك طبعاً لخدمة المصالح الضيقة للقلة من كبار أصحاب الأرباح، ومستوردين وتجار وفاسدين!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1201