عاماً بعد آخر يتحمل المفقرون نتائج سياسات التمويل بالعجز!
يعتبر التمويل بالعجز أداة تمويلية تلجأ إليها الحكومات لتغطية جزء من نفقاتها المقدرة في موازناتها، وذلك عندما تكون النفقات المقدرة أعلى من الإيرادات ضمن الموازنة، ما يعني وجود عجز لا بد من تغطيته عبر هذه الأداة المالية.
وتنقسم مصادر التمويل بالعجز إلى:
موارد داخلية (قروض من المصارف المحلية- بيع سندات الخزينة- طباعة النقود... إلخ).
أو موارد خارجية (قروض من بعض الدول).
وعادة يتم اللجوء لهذه الأداة من أجل تغطية الإنفاق الاستثماري على المشاريع التنموية ذات الطابع الاقتصادي، أو مشاريع البنية التحتية، والتي من شأنها أن تساهم في زيادة الإنتاج ورفع معدلات النمو وتخفيض معدلات البطالة.
ومن المفترض أن تغطي استثمارات وعائدات هذه المشاريع ليس أعباء اللجوء للتمويل بالعجز خلال السنوات اللاحقة فقط، بل مع تحقيق الأهداف المرجوة من جملة الإنفاق الاستثماري في الموازنات، وخاصة معدلات النمو.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن اللجوء إلى التمويل بالعجز يجب أن يتم بعد استنفاذ كل الموارد المالية المحلية، وبشكل أساسي الضرائب المباشرة على كبار المكلفين، وعوائد مؤسسات وشركات وأملاك الدولة العامة، وغيرها من المصادر التمويلية المحليّة.
فهل ينطبق ما سبق على ما تقوم به الحكومة عند لجوئها إلى التمويل بالعجز؟!
التمويل بالعجز يغطي 70% من الإنفاق الاستثماري!
أقرت الحكومة في مشروع موازنة عام 2025 نسبة عجز 21%، وهي أقل من نسبة العجز في العام الماضي بنسبة 5%، حيث كانت 26% في عام 2024.
وبالأرقام فإن مبلغ العجز في موازنة عام 2024 كان نحو 9,404 مليارات ليرة، ليصل في عام 2025 إلى مبلغ بنحو 11,046 مليار ليرة، أي بنسبة زيادة 17%.
لكن بالمقابل تجدر الإشارة إلى أن القيم بمعادلها الدولاري لم تتغير إلا بشكل طفيف، حيث بلغت قيمة العجز بالدولار في العام 2024 نحو 817 مليون دولار، وفي العام 2025 حوالي 818 مليون دولار، وذلك وفق سعر الدولار الرسمي في الموازنات، وبالتالي فإن العجز لم يتم تخفيضه عملياً من حيث القيمة المطلقة عن العام السابق، على الرغم من أهمية تخفيض القيمة النسبية.
مع الإشارة إلى أن النسب أعلاه لا يمكن التيقن منها إلا بعد قطع حسابات موازنات 2024- 2025 التي توضح الإيرادات والنفقات الفعلية، وخاصة نسب تنفيذ الإنفاق الاستثماري، كي لا تكون الأرقام المعلنة عبارة عن «جرّة قلم» شكلية وعلى الورق لا غير!
فبملغ التمويل بالعجز أعلاه سيغطي نسبة 70% من حصة الإنفاق الاستثماري في موازنة عام 2025، المقدرة بنسبة 30% من إجمالي النفقات، والبالغة 15780 ألف مليار ليرة، لذلك فإن أهمية الإنفاق الاستثماري وجدواه تزداد أهميته!
مؤشّرات تراجع جدوى الإنفاق الاستثماري!
أنفقت الحكومة خلال السنوات السابقة، كما كانت تعلن في مشاريع موازنتها، ما لا يقل عن 4.6 مليارات دولار من عام 2020 وحتى عام 2024، وذلك بعد تحويل مبالغ الاعتمادات الاستثمارية إلى ما يعادلها بسعر الصرف المعتمد في الموازنات السنوية، ولكن هذه الدولارات الاستثمارية يبدو أنها كانت استثمارية بالمسمى فقط، حيث لم نرَ نتائجها المفترضة على واقع الاقتصاد السوري!
فكل المؤشرات التي من شأنها قياس جدوى هذا الإنفاق كانت بتراجع وتدهور مستمر سنة وراء أخرى، سواء ناحية تدهور الإنتاج الوطني العام (الزراعي والصناعي)، أو بارتفاع معدلات الفقر، أو ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات لم يعد من المفيد ذكر أنها غير مسبوقة، ناهيك عن زيادة معدلات البطالة، وتراجع الخدمات العامة التي توفرها الدولة وتخصص لها جزءاً من إنفاقها الاستثماري سنوياً، كالماء والكهرباء والنقل وغيرها، ما يعني أن هذه النفقات لم تكن استثمارية فعلاً لمصلحة الدولة والاقتصاد الوطني، بل يغلب عليها الطابع النهبوي لمصلحة كبار أصحاب الأرباح!
وعند ربط تغطية الإنفاق الاستثماري بالتمويل بالعجز، وهو ما درجت عليه الحكومة، يظهر مؤشر التضخم بشكل أكبر من غيره من مؤشرات جدوى الإنفاق الاستثماري، فمعدلات التضخم خلال السنوات الثلاث الماضية بلغت 120% سنوياً، مع ما يترتب على ذلك من نتائج سلبية على الاقتصاد الوطني عموماً، يتحمل التمويل بالعجز جزءاً منها كأداة مالية، فيما تتحمل الإدارة الاقتصادية مسؤولية عدم تحقيق الجدوى من الإنفاق الاستثماري، لتظهر سلبيات التمويل بالعجز من الموارد المحلية (قروض من المصارف المحلية- بيع سندات الخزينة- طباعة النقود... إلخ) الفاقعة على المواطنين وعلى الإنتاج وعلى الاقتصاد الوطني عموماً!
خسارة مضاعفة!
التأكيد على أهمية توجيه الإنفاق الاستثماري على المشاريع التنموية ذات الطابع الاقتصادي، أو مشاريع البنية التحتية، والتي من شأنها أن تساهم في زيادة الإنتاج ورفع معدلات النمو وتخفيض معدلات البطالة، يأخذ بعداً إضافياً باعتبار التمويل بالعجز هو مصدر تمويل الإنفاق الاستثماري الرئيسي، وذلك لتغطية أعباء العجز كما هو مفترض!
وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى عوامل النهب والفساد التي تقتطع حصتها من كتلة الإنفاق الاستثماري، بالإضافة إلى نسب التنفيذ غير المستكملة لهذا الإنفاق في كل عام، مع تحميل المشاريع غير المستكملة فروقات الأسعار المترتبة نتيجة التأخر وبسبب متغيّرات سعر الصرف، وهو ما درجت عليه العادة سنوياً، والنتيجة عدم تحقيق الغاية من الإنفاق الاستثماري كما هو مفترض!
بناء عليه فإن المشاريع التي يتم اللجوء إلى تمويلها بالعجز تصبح غير قادرة على تغطية أعباء هذا العجز، وبالتالي يتم اللجوء إلى تغطية هذه الأعباء من مصادر أخرى، مثل الضرائب غير المباشرة أو من خلال الزيادات السعرية على السلع الأساسية، أي من جيوب الغالبية المفقرة!
وبذلك تكون الخسارة مضاعفة، مرة تم تحميلها للموازنة كأعباء مالية لم تحقق الجدوى منها، إما نهباً أو سوء توظيف، ومرة أخرى من جيوب المواطنين لتغطية العجز!
فعمليات النهب المنظم لمقدّرات البلاد والعباد تجري على قدم وساق، مع تغطية رسمية عبر تبويبات الموازنات السنوية وتوزيع اعتماداتها بين الاستثماري والجاري، بالإضافة إلى نسب التمويل بالعجز التي يتم اللجوء إليها لتغطية الفروقات بين الواردات والنفقات بكل موازنة سنوية، مع تحميل الغالبية المفقرة النتائج السلبية لكل ذلك!
والنتيجة أن من تتضاعف عليه التكلفة والأعباء هم الغالبية المفقرة دائماً، سواء من خلال زيادة الإفقار عبر استهداف جيوبهم، أو من خلال تراجع الخدمات العامة وزيادات الأسعار المتلاحقة، بالإضافة إلى استمرار سياسات تخفيض الإنفاق العام والدعم، واستمرار التراجع الاقتصادي العام، وخاصة قطاع الدولة، المقترن مع تراجع دور الدولة على مستوى مهامها الاقتصادية الاجتماعية، مقابل استكمال سيطرة القلة من كبار أصحاب الأرباح على مقدّرات البلاد والعباد!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1197