زراعة وصناعة التبغ من الاحتكار إلى الإنهاك وصولاً إلى التفريط!
تم التخلي عن قطاع هام جديد لصالح الاستثمار الخاص، هو قطاع صناعة التبغ وشراؤه وتسويقه، بعد عقود طويلة من الحصرية والاحتكار بيد الدولة من خلال المؤسسة العامة للتبغ التابعة لوزارة الصناعة، كجهة وحيدة وحصرية متخصصة في زراعة التبغ وتصنيعه وتجارته.
فقد صدر مرسوم بتاريخ 5/5/2024 أجاز للقطاع الخاص الاستثمار في صناعة التبغ وشرائه بهدف تصنيعه وتسويقه مصنعاً، خلافاً لأي نص نافذ، على أن تصدر تعليماته التنفيذية بقرار من مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الصناعة.
مبررات ذرائعية تدين الحكومة ولزوم مالا يلزم من مفردات!
يهدف المرسوم، كأسباب موجبة وتبريرية وردت عبر وكالة سانا، إلى فتح الباب أمام القطاع الخاص للدخول في استثمار التبغ بشكل محوكم ومدروس ومخطط، نظراً لما يمتلكه هذا القطاع من مرونة وخبرة تساعد في تجاوز بعض المعيقات التي تؤثر على استثمار هذه الصناعة من خلال القطاع العام الاقتصادي. ويحقق المرسوم فائدة للمزارعين، كما يحقق تطويراً لهذه الصناعة عبر خلق بيئة تنافسية محوكمة في عمليات الشراء والتصنيع والتسويق!
المبررات أعلاه عن مرونة وخبرة القطاع الخاص تعتبر في عمقها إدانة مباشرة للقطاع العام والمسؤولين عن إدارته، أي للحكومة والمسؤولين الرسميين، مع الاعتراف التام بوجود معيقات تؤثر على الاستثمار في القطاع العام الاقتصادي، وهو ما يعتبر أيضاً إدانة مباشرة للسياسات الحكومية التي لم تذلل تلك المعيقات!
أما الحديث عن المنافسة في عمليات الشراء والتصنيع والتسويق فهو حديث عن منافسة مع المؤسسة العامة للتبغ مع مستثمري القطاع الخاص عملياً، وعلى حسابها من كل بد، مع عدم ضمان تحقيق الفائدة من قبل المزارعين!
أما مفردة «حوكمة» وشبيهاتها فهي لزوم ما لا يلزم وفقاً للمضمون والغاية والنتيجة!
وقد تم التأكيد على ذلك من قبل المدير العام للمؤسسة العامة للتبغ، حيث نقلت صحيفة تشرين بتاريخ 8/5/2024 قوله بأن «المرسوم جاء لدعم صناعة التبغ المحلية لما لها من دور كبير في دعم الاقتصاد الوطني، وفتح آفاق جديدة في المجال الزراعي والصناعي والتسويقي لكل من المؤسسة العامة للتبغ والقطاع الخاص المستثمر في مجال شراء وتصنيع وتسويق منتجات التبغ، وأيضاً لاستثمار المرونة والخبرة والإمكانيات التي يمتلكها هذا القطاع والتي تمكنه من تجاوز المعيقات والصعوبات التي تعاني منها المؤسسة العامة للتبغ، وتؤثر في استثمار وتطوير صناعات التبغ والارتقاء بها وزيادة قدرتها التنافسية».
ولعل أهم ما يجب الإشارة إليه أن المؤسسة العامة للتبغ تعتبر من المؤسسات الاقتصادية العامة الرابحة، فهي تغطي قيمة محاصيل التبغ سنوياً من إيراداتها، وتقوم بتصنيع جزء منه من خلال معامل إنتاج السجائر الوطنية بمختلف مسمياتها وأنواعها، كما تستفيد من مخلفات التبغ في المعامل بعد تخميرها لإعادة بيعها للمزارعين كسماد، كما تصدر جزءاً من المحصول خاماً، بالإضافة إلى تصديرها بعض أنواع السجائر المصنعة في معاملها!
وعلى مستوى المنافسة بما يتم تصنيعه من أنواع محلية من قبل معامل الدخان التابعة للمؤسسة، فهي موجودة مسبقاً مع أنواع الدخان الكثيرة المتوفرة في السوق، سواء كانت مستوردة رسمياً أو مهربة!
بعض التفاصيل الإضافية عن التضحية والتخلي!
لم تصدر التعليمات التنفيذية للمرسوم بعد، لكن هناك بعض التصريحات الرسمية التي توضح بعض حيثياتها!
فبحسب وزير الصناعة فإن الوزارة سوف تصدر التعليمات التنفيذية، وبعد إقرارها يصبح من المتاح أمام القطاع الخاص شراء التبغ من المزارعين لغاية التصنيع!
حديث الوزير أعلاه يعني أن حصرية شراء المحصول من قبل المؤسسة العامة للتبغ تم كسرها لصالح القطاع الخاص أيضاً، وليس التصنيع فقط، وبالتالي ستدخل حيز المنافسة مع القطاع الخاص بشراء المحصول من المزارعين، وربما بأحسن الحالات فإن ما ستحصل عليه المؤسسة من محصول التبغ لاحقاً هي كميات ضئيلة وبمواصفات وجودة متدنية!
لم يقف الأمر عند ذلك فقط، فقد نوّه وزير الصناعة، بحسب صحيفة الوطن بتاريخ 6/5/2024، بوجود خبرة كبيرة في تصنيع التبغ من قبل المؤسسة العامة للتبغ التي تنتج عدة أنواع، وهناك خبرة متراكمة من قبل الفنيين من الممكن استفادة القطاع الخاص الراغب في الاستثمار منها ضمن في هذا المجال!
على ذلك فإن المنافسة مع القطاع الخاص لن تقف عند حدود شراء التبغ من المزارعين، ولا عند المنافسة على المنتجات المصنعة في السوق المحلية، بل وحتى على استقطاب الخبرات المتراكمة لدى فنيي المؤسسة العامة للتبغ، ومن غير المستغرب بعد ذلك أن تفقد مؤسسة التبغ خبراءها وفنييها تباعاً!
وتجدر الإشارة إلى أن مفردة «التسويق» الواردة في المرسوم مبهمة فيما إذا كانت الغاية منها هي التسويق المحلي أم الخارجي «التصديري»، وهو ما سيظهر ربما من خلال التعليمات التنفيذية المنتظرة!
فتصدير التبغ ومنتجاته محصور أيضاً بالمؤسسة العامة للتبغ، ولا ندري إن كانت هذه الحصرية ستتم التضحية بها؟!
مع العلم أن هذا هو المتوقع طبعاً، وذلك استكمالاً لمسيرة التخلي والتفريط المتبعة رسمياً!
ولا ندري بعد كل ما سبق كيف سيكون حال ومآل المؤسسة العامة للتبغ؟!
أرقام وبيانات التراجع الكبيرة!
ورد في المجموعة الإحصائية لعام 2022، الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء، البيانات الرقمية التالية عن المساحات وكم الإنتاج الخاصة بمحصول التبغ، حسب الجدول التالي:
ومن ضمن بيانات القطاع الزراعي عن عام 2022، التي وردت على الموقع الحكومي الرسمي بتاريخ 30/12/2022، أن المساحة المزروعة بالتبغ بلغت 6,594 هكتاراً، وبلغت كمية الإنتاج 9,597 طناً.
بيانات عام 2022 الرسمية أعلاه فيها تراجع بالمساحات المزروعة وبكم الإنتاج عن كل الأعوام التي سبقتها، بحسب جدول المجموعة الإحصائية السابق، وبما يتجاوز 30%!
وبحسب تصريح مدير الزراعة والبحث العلمي في المؤسسة العامة للتبغ، المهندس أيمن قره فلاح في حديثه لـ«الوطن» بتاريخ 3/4/2023 عن محصول التبغ لموسم 2023-2024 قال: «لدينا نحو 4,5 ملايين كيلو، بقيمة تقديرية تصل إلى نحو 25 مليار ليرة، ونتيجة زيادة الأسعار من المتوقع أن تزداد المساحات المزروعة الأمر الذي يساهم في زيادة الإنتاج».
الأرقام أعلاه كذلك تبين تراجع الإنتاج بين عامي 2022-2023 بنسبة كبيرة جداً، بما يقارب 5 أطنان، وبنسبة تقارب 50%، وهو إشارة إلى تراجع وانحسار في المساحات المزروعة أيضاً!
الأسعار غير المجزية!
أما المؤشر الذي يجب التوقف عنده فهو أن وسطي سعر الكغ من التبغ، بحسب القيمة التقديرية وكم الإنتاج المبينين أعلاه، وفقاً لتصريح المدير العام لمؤسسة التبغ عن عام 2023، هو 5500 ليرة/كغ!
أما وسطي الأسعار الرسمية للموسم الحالي، الذي ستتم عملية المباشرة بحصاده بعد أقل من شهرين، فيبلغ 26 ألف ليرة/كغ!
فأعلى سعر هو لصنف البصما بمبلغ 32 ألف ليرة/كغ، وأدنى سعر هو لصنف تبناك بمبلغ 24 ألف ليرة/كغ، وهي أسعار الحد الأعلى التي يتم تخفيضها تبعاً للمواصفة والجودة ودرجة الرطوبة، وغير ذلك من اشتراطات بعهدة لجان التخمين والتسعير المعتمدة من قبل مؤسسة التبغ!
والسؤال الذي يفرض نفسه هل هذا السعر الوسطي مجزٍ للمزارع كي يستمر بزارعة المحصول؟!
ولعل الجواب واضح، فالسعر غير المجزي هو الذي أدى إلى تراجع الإنتاج على مستوى المساحة والكم خلال السنوات الماضية، على الرغم من كثرة مطالب المزارعين المحقة بإنصافهم، لكن دون تجاوب رسمي طبعاً!
فعشرات الآلاف من المزارعين يعملون بزراعة وإنتاج محصول التبغ، وهؤلاء يعتمدون على هذا المحصول لتغطية تكاليف معيشتهم مع أسرهم افتراضاً، لكن مع الخسارات المتراكمة تقلص عدد الأسر التي تعمل بهذا المحصول!
المقدمات والنتائج!
انحسار المساحات المزروعة بمحصول التبغ وتراجع حجم إنتاجه عاماً بعد آخر، هي النتيجة الحتمية للسياسات الزراعية والاقتصادية المتبعة، سواء على مستوى تأمين مستلزمات الإنتاج وتكاليفها المرتفعة على المزارعين، أو على مستوى تسعير المحصول الذي لا يغطي بالنتيجة تلك التكاليف ويضع المزارع موسماً بعد آخر أمام خسارات متراكمة، أدت به إلى العزوف عن زراعة المحصول، والأرقام الرسمية أعلاه خير دليل على ذلك!
ومن المفروغ منه أن التضحية بالمحصول وتراجعه تباعاً تنعكس سلباً على الصناعة المحلية العامة التي تعتمد عليه، كماً ونوعاً، والتي تغطي جزءاً هامّاً من احتياجات الاستهلاك المحلي، ومن الطبيعي أن هذه السلبيات ستزداد مع دخول القطاع الخاص على خط الاستثمار بهذا القطاع خلال الفترة القريبة القادمة!
فكل ما سبق أعلاه هي المقدمات التي كان لا بد منها من أجل كسر حصرية واحتكار الدولة لهذا القطاع، تماشياً مع سياسات التحرير الاقتصادي المتبعة رسمياً، كنهج ومسيرة بدأت منذ عقود ومستمرة حتى تاريخه!
فهل بعد كل ما سبق من تخلٍّ وتفريط يمكن الحديث عن تنافسية وحوكمة، وعن قطاع عام اقتصادي؟!
ميزة تفضيلية غير مستثمرة!
تجدر الإشارة إلى أن جزءاً من محصول التبغ المحلي تصديري، فبعض أنواع التبوغ المحلية، التي تعتبر من الأنواع الشرقية العطرية، يتم تصديرها خاماً، مع العلم أنها تحمل ميزة تفضيلية، مثل البلدي والبيرليت والبصما!
فعلى سبيل المثال فإن التباك الذي يسمى «اللاذقاني» في خلطات التبغ التي يتم تصنيعها من قبل بعض المصانع العالمية يعتبر منكهاً عطرياً هاماً مضافاً إلى هذه الخلطات، التي يتم الترويج والتسويق لها بسبب هذه الإضافة، وباسمها!
فهناك على سبيل المثال ماركة تبغ مخصصة للغيلون باسم HH Pip) Tobacco Latakia Flak 50g) يبلغ سعرها الآن 15،5 جنيهاً إسترلينياً، أي ما يعادل 244 ألف ليرة لعبوة 50 غرام، على ذلك فإن الكغ منها يبلغ سعره ما يتجاوز 4,8 مليون ليرة سورية، وهذه الماركة لا شك مخصصة لنخبة النخبة من الأثرياء في العالم!
مقابل ذلك فإن وسطي سعر الكغ من التبغ الذي يتقاضاه المزارع يبلغ 26 ألف ليرة بحسب الأرقام الرسمية أعلاه، وفي السوق للمفروم المعد للاستهلاك يبلغ سعر الكغ بحدود 150 ألف ليرة!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1174