إصرار ممنهج على استمرار الأزمة...
ما الذي يمكن أن يفكّر فيه مواطنٌ همُّه إيجاد مقعد شاغر في سرفيس؟
تتوسط خديجة راكبين في الكرسي العكسي من سرفيس السيدة زينب-دمشق، يبدو الغضب بادياً على وجهها فيما تعدّ مبلغ أربعة آلاف ليرة...
«الله لا يشبعكون، الأجرة ألفين»، تتمتم بصوت منخفض خشيةَ أن يطردها السائق بجملة «مو عاجبك نزلي» فتخسر بذلك مقعدها الذي حصلت عليه بشقّ الأنفس!
أما السائق فلم يتمالك نفسه وظلّ يردّد باستمرار: «مفكرين نحنا عم نسرقكم؟ روحو شوفو الحرامية الكبار اللي وصلونا كلنا لهون! أصلاً يلي بدو يموت من الجوع يشتغل شوفير سرفيس بهالبلد»!
الجدال نفسه يتكرر كل لحظة، وفي كل مكان على امتداد الجغرافيا السورية، مع تقاذُفٍ للمسؤوليات حول واقع أزمة وسائل المواصلات العامة في سورية!
أزمة مزمنة دون حلول!
أزمة المواصلات ليست مستجدّة كما يحلو لبعض الرسميّين تصويرُها، وكأنها وليدة سِنيِّ الحرب والأزمة والعقوبات والحصار وبسببها، بل هي قديمة ومستمرة ومزمنة منذ عقود، ونستشهد على ذلك بما ورد في صحيفة الثورة الرسمية بتاريخ 5/12/2007 حول أزمة المواصلات في دمشق وريفها: «كل مواطن يريد أن يستعمل وسائل النقل الحالية عليه أنْ يسأل نفسَه يوميّاً ثلاثة أسئلة قبل أن يبدأ نهاره: كيف سيذهب، وكم من الوقت سينتظر ليجد سرفيساً، ومتى سيصل إلى عمله؟! فهل أصبح الحصول على وسيلة نقل حضارية تُقِلّ المواطن من وإلى عمله معجزةً في هذا العصر؟! إلى متى سيبقى المواطن يعاني ويتحمل نتائج فشل أساليب ووسائل باتت قديمة؟!... الدكتور يعرب بدر وزير النقل يعبّر عن خجله من الباصات الموجودة حالياً ومن وضعها، حيث قال إنها لا تلبّي الطموحات وإنّ الاختناقات المرورية بدمشق لن تجد حلّاً إلّا بالنقل الجماعيّ المنظم، أما بعض المسؤولين فقد شجّعوا المواطنين على استعمال الدراجات الهوائية كحلٍّ لأزمة النقل والتلوّث معاً على مبدأ المثل القائل: في الحركة بركة...»!
وتتوالى الأيام والشهور والسنين، الرقابة غائبة، والصحافة لا تزال تتساءل، وأزمة النقل تتناسب طرداً مع إصرار الحكومة المتعمَّد والممنهَج على استمرارها!
فها هي صحيفة الثورة الرسمية تنشر تقريراً بتاريخ 5/11/2023 حول أزمة المواصلات في دمشق وريفها تقول فيه: «معاناة وحالة من القهر يشعرها سكّان دمشق وريفها نتيجة الانتظار الطويل في الطرقات لأجل أنْ يصلوا إلى أعمالهم وجامعاتهم ومدارسهم أو العودة إلى منازلهم... ينتظر العمال والموظّفون والطلّاب أكثر من ساعة ليحظوا بمكان في وسيلة نقل، وأمام هذه المسلسل اليومي لا نجد أي حلول تذكر من قبل المعنيين... محافظة ريف دمشق تقول إن هناك أكثر من 200 سرفيس مسجل لديهم، إضافة لـ 16 سرفيساً آخر مفرزاً من خطوط المناطق التي توقفت عن العمل… وهناك 20 باصاً من شركات النقل الداخلي و10 باصات من شركة النقل الأوائل... إذاً نحن أمام قضية كبيرة من الفساد ألا وهي أين تذهب وسائط النقل هذه ولماذا تغيب عن العمل وخاصة في وقت الذروة… وأين هذا الكم الكبير من باصات النقل الداخلي إذ ينتظر المواطن ساعات ليحظى بباص نقل كبير يطل من بعيد»؟!
فما الذي يمكن أن يشغل فكر مواطن كل همه أن يجد مقعداً شاغراً في سرفيس؟!
شمعة مضيئة بواقع مظلم!
يعاني قاطنو بلدة السيدة زينب بريف دمشق من أزمة نقل غير مسبوقة، بالمقابل فإن شركة النقل الداخلي بدمشق تقول إنها خصصت مؤخراً 30 باصاً لدمشق وريفها، ووزعت الباصات على الخطوط المناسبة الأكثر ازدحاماً بما يسهم بالتخفيف من أزمة النقل علماً أن الحاجة الفعلية للحد من الأزمة أكبر!
وبالرغم من ذلك الواقع البائس لا يكلّ البعض عن القيام بمبادرات فردية لإصلاح ما يمكن إصلاحه، أو على الأقل تلقي الواقع السيِّئ بأقل قدر من الخسائر، فعلى امتداد الطريق من السيدة زينب إلى المنطقة الصناعية في دمشق، لا يكفّ السائق أبو عباس عن ترديد عبارات «المكان بيوسع من الحبايب ألف، اطلع مشان ما تضل واقف بالشارع، أهلا وسهلا يا عيوني»، وذلك في كل مرة يقف فيها بمحاذاة الشارع ليلتقط المارة بباص «السكانيا» الذي يقوده.
فالسائق أبو عباس، الذي يدرك حجم المشكلة وتفاصيلها ومسبباتها يحاول أن يعالجها بحمل أكبر عدد ممكن من الركاب في رحلته، ضمن الالتزام المعقول بالتسعيرة الرائجة في خطه، والأهم من ذلك أن يبتسم بوجه الركاب الذين- للمرة الأولى في حياتهم- لا يتذمّرون من ازدحام وسائل النقل العامة، بل يقابلون السائق بابتسامة أكبر!
لكن ماذا ستنير شمعةٌ في عالم غارق بالظلام؟!
أصابع الاتهام بالاتجاه نفسه دائماً!
لطالما نسبت الجهات المعنية مسؤولية أزمة النقل «للسائقين الجشعين الذين لا يتوانون عن رفع الأسعار بحجج واهية»، ولا يخلو أي تصريح رسمي في هذا الشأن من إظهار طمع السائقين وتعمّدهم السرقة!
في تصريح سابق له، قال عضو قطاع الخدمات والتنسيق بمحافظة ريف دمشق صفوان ضاهر بتاريخ 26/9/2023 إنّ «أصحاب السرافيس يلجؤون لذرائع عدة، وحجة البعض إما عدم توفر المازوت فيضطرون لتأمينه وشرائه بشكل حر، الأمر الذي يفاقم الأزمة، أو أن التسعيرة المعلن عنها ﻻ تتوافق مع المردود الذي يبتغونه، ولا مع أسعار الإصلاحات التي تتعرض لها مركباتهم، وأيضاً يرفعون الأسعار بحجة المسافات الطويلة».
تصرّ الحكومة على تحميل سائقي السرافيس كامل المسؤولية عن أزمة المواصلات، لكن للسائقين رأي آخر!
يقول أحمد الذي يعمل سائقاً على خط مهاجرين صناعة: «إذا التزمت بالتسعيرة الرسمية بموت من الجوع، بطلّع يومياً 120 ألف ليرة، وبين حق مازوت ونسبة صاحب السرفيس بيبقى إلي 40 ألف، هاد مبلغ ما بكفي حق وجبة وحدة، يعني الحكومة عم تقلي خود زيادة من الركاب لتعيش أنت وعيلتك، لأن مستحيل مدخولي اليومي يكفيني حق أكل، بدهم يانا نسرق لنعيش»!
ففي توجيه أصابع الاتهام نحو السائقين، تنأى الحكومة بنفسها عن المسؤولية، وتتنصل من واجباتها بإيجاد الحلول وتأمين وسيلة نقل تحفظ للمواطن ما بقي من كرامته، وتكرس سياستها في إشغاله وإلهائه بهمومه المعيشية من جهة، ومن جهة أخرى تحرف وجهة نظر الرأي العام عن سياساتها الفاشلة لسنوات طويلة، وبدلاً عن ذلك تحاسب وتلوم ضحايا هذه السياسات!
فقد ساهمت السياسات الحكومية الفاشلة المتراكمة، بالإضافة إلى مفرزات الحرب والأزمة والوضع الاقتصادي المعيشي المتدني، في وصول منظومة النقل الداخلي إلى مستوى غير قابل للإصلاح اليوم إلا بتغيير جذري على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كغيرها من الأزمات المزمنة!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1162