المحصول الثاني استراتيجياً في غرفة الإنعاش!

المحصول الثاني استراتيجياً في غرفة الإنعاش!

يعود القطن السوري ليتصدر العناوين، ليس كمحصول استراتيجي بل كضحية لموبقات السياسات الحكومية ونتائجها الكارثية، التي يتم حصاد سلبياتها على حساب العباد والبلاد.

فسياسات التسعير المجحفة التي اعتمدتها الحكومة لكيلو القطن بـ10000 ليرة هذا الموسم، أي أقل من دولار واحد بحسب السعر الرسمي، مقابل السعر في العام الماضي الذي كان بـ4000 ليرة، والذي كان يعادل أكثر من دولار وفقاً للسعر الرسمي بحينه، هي أسعار غير مجزية للفلاح، الذي بات ضحية السياسات الحكومة من طرف، والسماسرة والتجار من طرف آخر، والنتيجة الطبيعية هي عزوف الفلاح عن زراعة القطن، أي مزيد من التراجع في إنتاج هذا المحصول الاستراتيجي افتراضاً!
فالعشرة آلاف الحالية كسعر لا تغطي تكاليف الإنتاج الكبيرة، التي وبفضل سياسات تخفيض الدعم الجائرة أيضاً تستمر بالارتفاع عاماً بعد عام!
فسياسات التسعير بالتوازي مع سياسات تخفيض الدعم، وغيرها من السياسات الظالمة الأخرى، عبارة عن توليفة متكاملة ستؤدي بدورها إلى مزيد من التراجع في زراعة القطن في المواسم القادمة من كل بد، وهو المطلوب على ما يبدو!
وللتذكير فقد تجاوز إنتاج سورية المليون طن ما قبل 2010، وحجزت مكانها في التصنيف العالمي، فاحتلت المرتبة الثانية عالمياً في إنتاج القطن العضوي بعد الهند، وحققت التصنيف الثاني عالمياً بعد أستراليا، من حيث مردود المساحة بمعدل أربعة أطنان للهكتار.

مثال ملموس عن تراجع الإنتاج!

بالعودة إلى البيانات التي أعلنتها مديرية الزراعة بدير الزور في بداية الموسم، والتي حددت فيها الخطة الزراعية للموسم 2022-2023، فقد أوضح مدير الزراعة المهندس فؤاد عابدون في تصريح لـ سانا أن «المساحات المخطط زراعتها بمحصول القطن 6731 هكتاراً، في حين بلغت مساحة الأراضي المزروعة فعلياً 5800 هكتار»، أي إن نسبة التنفيذ بلغت 86٪ من المخطط!
وقد صرح مدير المصرف الزراعي بدير الزور محمد العكل لإذاعة شام إف إم خلال الأسبوع الماضي بقوله «بلغت قيمة الأقطان المصروفة للفلاحين حتى الآن 117 ملياراً، موزعة على 60 ملياراً في مدينة دير الزور و30 ملياراً في مدينة المياذين و27 مليار في مدينة البوكمال”.
وحسب سعر الشراء الذي حددته اللجنة الاقتصادية للكيلو غرام الواحد من محصول القطن المحبوب من الفلاحين لموسم 2023 والبالغ 10 آلاف ليرة سورية واصلاً أرض محالج ومراكز استلام المؤسسة العامة لحلج وتسويق الأقطان، فإن المبلغ المصروف أعلاه هو ثمن لـ11,700,000 كيلو غرام، أي 11700 طن، علما أن إنتاج المحافظة لموسم العام الماضي بلغ 12500 طن، إي إن الإنتاج الحالي في محافظة دير الزور أقل بنسبة تتجاوز 6% عن العام الماضي فقط!

خطط محصول القطن للترويج الإعلامي فقط!

بين المهندس أحمد حميدي، رئيس دائرة المحاصيل الحقلية في مديرية الإنتاج النباتي، حسب ما نشرته سانا بتاريخ 25/5/2022، واقع الخطط لعام 2022 بأن: «إجمالي المساحات المزروعة بالقطن لغاية تاريخه بلغت 23,407 هكتارات من المساحة المخطط تنفيذها والبالغة 57,365 هكتاراً، وبنسبة تنفيذ 41%، لافتاً إلى أن عملية الزراعة مستمرة في بعض المناطق وبنسب محدودة”!
وقد ناقشت وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي خطتها الإنتاجية لموسم 2022-2023، وحسب الخطة التي تم عرضها آنذاك ونشرت على الموقع الحكومي بتاريخ 14/8/2022، قدرت مساحة الأراضي المخصصة لزراعة القطن بـ58308 هكتار.
وفي تصريح للصحفيين أكد وزير الزراعة المهندس محمد حسان قطنا بحينه أن «الخطة راعت تأمين احتياجات المواطنين والصناعات الغذائية والتحويلية والتصدير وتم تحديد مستلزمات تنفيذها لتمكين الفلاحين من البدء في الزراعة بداية تشرين الأول القادم».
وحسب ما ورد على موقع الحكومة بتاريخ 1 تشرين الثاني 2023 على لسان مدير مكتب القطن المهندس أحمد العلي أن «المساحة الإجمالية المزروعة بالقطن على مستوى القطر لهذا الموسم بلغت 57173 هكتاراً، منها 13393 هكتاراً في المناطق الآمنة».
بالنظر للبيانات أعلاه نلاحظ أن مساحة الأراضي المزروعة بالقطن لعام 2023 تراجعت عن المخطط على مستوى المساحة، فيما بلغت 13393 هكتاراً المتاح فعلياً في المناطق الآمنة، من أصل الخطة الزراعية الإجمالية المقدرة بـ58308 هكتاراً، وبنسبة 23٪ من هذه الخطة فقط!
ليتبين وكأن الحكومة تصدر خططها الزراعية الرقمية كمساحات بغاية الترويج الإعلامي فقط لا غير، بينما واقع التنفيذ الفعلي لهذه الخطط في تراجع مستمر عاماً بعد آخر، وما يؤدي إلى تكريس هذا التراجع هي سياسات التسعير المجحفة مقابل ارتفاع التكاليف على الفلاح، وبحيث يبدو الحديث عن تـأمين المستلزمات لتمكين الفلاحين من الزراعة هو حديث خلبي إضافي، يدفع الفلاح بالنتيجة للعزوف بشكل نهائي عن زراعة هذا المحصول!
وللتذكير فقد كانت المساحات المزروعة بالقطن في سنوات ما قبل الحرب والأزمة تقارب 200 ألف هكتار، وتراجعت على التوالي وصولاً إلى 172 ألف هكتار في عام 2010، ثم استمر التراجع خلال سنوات الأزمة إلى 29 ألف هكتار تقريباً في عام 2021، وهكذا من تراجع إلى تراجع أكبر على مستوى الأرقام التنفيذية الفعلية!
فأين هي وعود وزير الزراعة بما يخص «تأمين احتياجات المواطنين والصناعات الغذائية والتحويلية والتصدير» في ظل هذا النمط من التخطيط والتنفيذ؟!

سياسات الإجهاز على الإنتاج ومصالح أصحاب الأرباح!

لنكتشف أن تراجع إنتاج محصول القطن، كغيره من المحاصيل الاستراتيجية الأخرى، ليس نتيجة للظروف الاستثنائية التي مررنا بها فقط، وإنما السبب الرئيسي لتكريس التراجع والتدهور هو سياسات الإجهاز على الإنتاج المحلي، بشقيه الزراعي والصناعي، ابتداء من سياسات رفع الدعم، مروراً بسياسات التسعير المجحفة، وليس انتهاء بسياسات تقويض الإنتاج، وصولاً إلى قرارات الاستيراد المجيرة لمصلحة أصحاب الأرباح فقط لا غير!
فتراجع إنتاج محصول القطن كان مبرراً لفتح بوابة استيراده خلال السنوات الماضية، وتكريس هذا التراجع يعني تكريس عمليات الاستيراد وزيادة كمياتها، أي مزيداً من الأرباح في جيوب البعض المحظي على حساب الفلاح والإنتاج والصناعة، حاله كحال محصولي القمح والشوندر السكري تماماً!

تأثيرات تراجع إنتاج القطن وانعكاساته الكارثية!

إن تراجع إنتاج محصول القطن يعني مزيداً من التراجع على مستوى كل الصناعات المحلية التي تعتمد عليه كمادة أولية، أي إن التراجع المخطط والمبرمج له لمصلحة زيادة حصة الاستيراد، لن يضر بمصلحة الفلاح الذي يعتمد على هذا المحصول في حياته ومعاشه وخدماته فقط، بل سيلحق ضرراً بالعاملين وأسرهم في هذه الصناعات (غزل ونسيج وأقمشة وألبسة و..) عامة أو خاصة، مع كل القطاعات العاملة بسلاسل توريد وتوزيع وتسويق إنتاجها، وهذا يعني مئات الآلاف من العاملين أيضاً!
مع الأخذ بعين الاعتبار أن قطاع الصناعات النسيجية وقطاع صناعة الألبسة تعتبر قطاعات تصديرية مولدة للثروة وموردة للقطع الأجنبي، بالإضافة إلى ما تؤمنه من احتياجات الاستهلاك المحلي!
فزيادة تكاليف هذه الصناعات من خلال عمليات استيراد مادتها الأولية الرئيسية المتمثلة بالقطن تعني زيادة أسعار منتجاتها، أي تخفيض معدلات استهلاكها محلياً، وعدم تمكنها من المنافسة في أسواق التصدير، وصولاً إلى توقف بعض منشآتها جزءاً وكلاً، ونزوح بعضها خارجاً، وهو ما جرى ويجري عملياً!
وبهذا الصدد نعيد التذكير بما ورد بمادة سابقة لقاسيون بعنوان «تراجع محصول القطن وملاذات الاستيراد الكارثية!» بتاريخ 30/7/2023 «حبل النجاة المرتبط بعمليات الاستيراد، التي يستفيد منها قلة من كبار أصحاب الأرباح كالعادة، مكلف ومؤقت، ونتيجته مزيد من تراجع قطاع الصناعات النسيجية، مع نوايا مبيتة لإنهائه على ما يبدو، فهذا يضمن استمرار مصالح أصحاب كبار الأرباح والفاسدين، ويتوافق تماماً مع السياسات التدميرية لكل ما هو منتج في البلاد للاستعاضة عنه عبر الاستيراد! ولعله لن يكون من المستغرب مع الاستمرار بهذه السياسات التدميرية أن يتم الاضطرار إلى استيراد الألبسة الجاهزة خلال السنوات القادمة، وليس بعض مستلزمات الإنتاج المكلفة فقط! ».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1157