الماء.. حصن أخير ضامن لحق الحياة سيسقط في براثن الخصخصة!

الماء.. حصن أخير ضامن لحق الحياة سيسقط في براثن الخصخصة!

تشكل المياه أحد أهم مقومات استمرارية الحياة، والمورد الأكثر تأثيراً في حياة السكان، ومنذ ما قبل اندلاع الأزمة في عام 2011 بدأت تبرز قضية المياه كإحدى أهم التحديات التي تواجه السوريين، وخاصة مياه الشرب التي تفاقمت وتعمقت على إثرها، مع غياب للإحصائيات التي تقدر خسائر هذا القطاع بشكل دقيق، رغم تواتر التقارير والمؤشرات والوقائع حول تردي الواقع المائي في سورية، ومستقبل الموارد المائية المهدد في ظل إهمال حكومي متعمد، وعجز واضح أدى لتفاقم أزمة المياه بشكل غير مسبوق، وفي كل المحافظات السورية!

وأمام هذا الواقع بدأت تظهر البدائل التي فرضت نفسها على المواطن لتأمين احتياجاته اليومية من المياه، وخاصة من خلال الصهاريج المكلفة، غير مضمونة المصدر، وغير الآمنة، كبوابة خصخصة جزئية، غير معلنة وغير مقوننة، على هذا القطاع الحيوي والهام!
لكن المؤشرات تقول: إن هذه الخصخصة الجزئية ستصبح مقوننة ومشرعنة على ما يبدو، مع ما يعنيه ذلك من احتمال التوسع فيها مستقبلاً!
فها هي الحكومة تدخل على خط منح تراخيص للصهاريج بغية تنظيم وضبط عملية بيع المياه للمواطن!

أجل عزيزي المواطن، فشرعنة بيع المياه عبر الصهاريج هو قرار عاجز آخر يسجل في خانة العجز الحكومي!
والسؤال هنا: هل حل أزمة المياه يقضي ببيعها للمواطن بعيداً عن الشبكة الرسمية المشترك فيها؟
وهل المشكلة هي بمنح الترخيص أو عدمه، أم بالضرورة التي فرضت وجود الصهريج نفسه؟

تفاصيل بدء شرعنة الخصخصة!

في تصريح لجريدة الوطن بتاريخ 20/9/2023 أكد محمد عصام طباع المدير العام لمؤسسة مياه الشرب والصرف الصحي في دمشق وريفها أنه: «يتم حالياً وضع آلية لتنظيم وضبط بيع الصهاريج للمياه للمواطنين، وذلك بعد موافقة رئاسة مجلس الوزراء عليها، وتكليف العديد من الوزارات في هذا الموضوع، ومنها: وزارة الموارد المائية، لوضع الآلية المناسبة لتزويد المواطنين بالمياه في المناطق التي يتعثر تخديمها نتيجة الظروف الحالية».
وأضاف الطباع أن: «وضع هذه الآلية سيكون بالتشاركية مع العديد من الجهات، موضحاً أن المكتب التنفيذي في كل محافظة سوف يضع التعرفة الخاصة للصهاريج، على حين مؤسسة المياه معنية بفحص المناهل التي تتزود منها الصهاريج بالمياه، على حين مديرية الصحة سوف تتأكد من صحة المياه بعد أخذ العينات لفحصها».
التصريح بتفاصيله أعلاه، يعني أن الآلية المعتمدة تمت الموافقة عليها حكومياً بشكل رسمي، مع تقاسم للمهام بشأنها، ويعني أيضاً أن عمل الصهاريج بعد انتزاع مشروعيته تحت ضغط الحاجة كشكل من أشكال الخصخصة الجزئية غير المعلنة في قطاع المياه، أصبح مشرعناً الآن بموافقة الحكومة، ولم يبق إلا خطوة القوننة كي يتم انتزاع المزيد من الخصخصة بهذا القطاع!
وما يؤكد ذلك، هو ما قاله الطباع أيضاً بأن: «المؤسسة أصدرت تعميماً تضمن أنه كل شخص يريد بيع المياه للمواطنين عبر الصهاريج، أو تزويد المياه للمواطنين، أو لديه منهل، عليه أن يتقدم بطلب لدراسته ومدى مطابقته للشروط المشار إليها لإعطائه الترخيص ضمن الشروط التي تم وضعها».
فالحديث أعلاه، تضمن مروحة واسعة من فرص الاستثمار في المياه، وتجاوز موضوعة الصهاريج وتعبئتها من المناهل العامة، إلى من لديه منهل خاص، مع عبارة «تزويد المياه للمواطنين»!

مهام عامة ستجيّر للخاص!

من الجدير بالذكر هنا، أن ما سبق أعلاه من توزيع مهام بحسب الآلية المعتمدة رسمياً، تندرج سلفاً ضمن مهام ومسؤوليات الجهات الرسمية المذكورة فيها، اعتباراً من وزارة الموارد المائية ووزارة الصحة ومديرياتها، إلى مؤسسة المياه، إلى المحافظات والبلديات!
فجميع هذه الجهات مسؤولة بالتنسيق فيما بينها عن إعداد الخطط المتعلقة بمياه الشرب ومشاريع الصرف الصحي، ومشاريع الري، وتصميم وتنفيذ المشاريع، إضافة للصيانة الدورية والفحص المستمر، كما هو محدد وموضح في الإطار المؤسسي العام لإدارة ملف المياه، المنظم بشكل هرمي بما يخدم مصلحة المواطنين، مع تحديد الأدوار والمسؤوليات بين الهيئات والمؤسسات العامة افتراضاً، وليس مكرمة تقدمها الحكومة للمواطنين، بل هو واجب ومسؤولية عليها!
أما والحال كذلك مع بدء شرعنة الخصخصة فإن الآلية أعلاه ستفرض تجيير بعض المهام العامة أعلاه لمصلحة المرخصين بتزويد المياه للمواطنين كمستثمرين جدد، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية تغوّل المحسوبية والفساد بهذا الملف الحيوي والهام أيضاً!

مخاوف مشروعة!

اتبعت الخطة الخمسية العاشرة سيئة الصيت، التي أقرتها الحكومة منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، مسار الليبرالية الجديدة تحت عنوان «اقتصاد السوق الاجتماعي» وذلك قبل انفجار الأزمة، وقد تم تكريس السياسات الليبرالية بشكل أعمق وأوسع وبشكل أكثر ظلماً وجوراً، وبشكل غير مسبوق، خلال سني الأزمة وحتى الآن!
وكان الهدف التنفيذي من الخطة والسياسات أعلاه، بالإضافة إلى تخفيض الإنفاق العام وتخفيض الدعم والانفتاح التجاري والتحرير السعري، هو توسيع قاعدة الاستثمار الخاص، وخاصة ذو الربح الكبير والسريع غير المنتج، بالإضافة إلى مشاريع الخصخصة المباشرة وغير المباشرة في بعض القطاعات العامة والهامة، بما في ذلك بعض القطاعات السيادية، اعتباراً من قطاع الاتصالات، وصولاً إلى قطاع التعليم، والبدء بخصخصة قطاع الكهرباء مؤخراً، وذلك تحت مسمى عقود الاستثمار والتشاركية مبهمة المعالم، والمجيرة كلاً لمصلحة القلة من كبار أصحاب الأرباح والفاسدين!
ولتاريخ الموافقة الحكومية أعلاه، لم تكن هناك شراكات واسعة النطاق بين القطاع العام والخاص، أو استثمارات واضحة بما يخص قطاع المياه!
فالموارد المائية ومشاريعها تعتبر من الخدمات العامة بعهدة الدولة، والتي يفترض أن تقدمها الحكومة وترعاها وعلى مسؤوليتها، سواء بما يخص شبكات مياه الشرب للمواطنين، أو بما يخص مياه الري والسقاية للقطاع الزراعي.
ولكن بعد موافقة مجلس الوزراء على منح تراخيص لبيع المياه للمواطنين وفقاً للآلية المعتمدة أعلاه، بدأت مخاوف السوريين تتعاظم من مساعٍ رسمية لدفع قطاع المياه باتجاه عقود شراكة أو استثمار خاص، كما هو الحال في بعض دول الجوار، مثل: الأردن والسعودية والإمارات!
وما يزيد من المخاوف بهذا الشأن هو ما يمكن أن ينجم عنه من نتائج مستقبلية كارثية على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، وخاصة بالنسبة للمفقرين!
فالمواطن سلفاً وجد نفسه أمام كارثة حقيقة بظل قلة المياه عبر الشبكات الرسمية، والعجز الرسمي عن حل هذه الأزمة المزمنة والمستعصية، وبما يتوافق عملياً مع سياسات تخفيض الإنفاق العام الظالمة وسياسات تخفيض الدعم الجائرة، فهو مضطر لدفع مبالغ كبيرة مقابل الحصول على مياه نظيفة صالحة للشرب، في حين تعجز الكثير من الأسر المفقرة من أصحاب الدخل المحدود عن تأمين كل احتياجاتها عبر الصهاريج، وذلك لتكلفتها المرتفعة التي أصبحت تعادل أكثر من ضعف أجرها الشهري!
فالخشية لدى المواطنين من الموافقة الحكومية الجديدة أعلاه مشروعة ومبررة، خاصة بعد أن لمس هؤلاء وذاقوا مرارة السياسات الليبرالية وموبقاتها وانعكاساتها الكارثية على حياتهم ومعاشهم وخدماتهم، وعلى مجمل الاقتصاد الوطني، والمجيرة كلاً وجزءاً لمصلحة حفنة من كبار أصحاب الأرباح والناهبين والنافذين في البلاد!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1141
آخر تعديل على الجمعة, 20 تشرين1/أكتوير 2023 23:54