الواقع الزراعي في طرطوس.. المزارعون العمود الفقري للأمن الغذائي
طبيعة وجغرافية محافظة طرطوس أخذت شكل المناطق الجبلية الوعرة فالأقل وعورة ثم السهلية، ولكل منها خصائصها وزراعاتها المتميزه بها، ولكل منها محاصيلها الداعمة للأمن الغذائي، وبما يسد حاجة الأسواق داخلاً، مع إمكانية تصدير الفائض للأسواق الخارجية أيضاً، بالمقابل ولكل منها أيضاً ما تعانيه من صعوبات وضعف الرعاية والاهتمام من قبل الجهات الوصائية الرسمية، المعنية والمسؤولة عنها وعن خدماتها المفترضة، وصولاً إلى تراجع وتآكل الدعم، والاستمرار بذلك!
فخلال اجتماع «استثنائي» بتاريخ 14/3/2023 للجنة الفلاحية في شعبة المنطقة الثانية، ضم الجمعيات الفلاحية في القرى المعنية ورئيس الرابطة الفلاحية، وممثلي الوحدات الإرشادية بها، وبحضور رئيس مكتب الفلاحين ورئيس اتحاد الفلاحين في المحافظة، ومدير المصرف الزراعي ومدير الموارد المائية ومدير مؤسسة الأعلاف ورئيس دائرة الري الحديث، وكل من له صفة متعلقة بالإنتاج الزراعي بشقيه (النباتي والحيواني)، تم طرح الكثير من القضايا والصعوبات، التي تشعبت وتشابكت بتراكماتها زمنياً، مع شجونها.
وفيما يلي تلخيص لمجريات الاجتماع، ومطالب الفلاحين والمزارعين خلاله.
الزراعات الجبلية
ما يميز هذه الجغرافيا بأنها تعتمد كلياً على شجر الزيتون، وتتداخل في أماكن كثيرة مع الغابات (سواء كانت صنوبرية أو حراجية)، وأكثر من نصف المساحة المستثمرة بأشجار الزيتون تقع في أماكن وعرة أو بعيدة عن الطرقات!
فأول مشكلة أنه لا يمكن حراثة هذه الأراضي لعدم إمكانية وصول أية آلية صغيرة إليها، ولو كان على مستوى (عزّاقة)، وعدم إمكانية مكافحة الأمراض التي تصيب أشجار ذلك المحصول، وأهمها المرض الفطري (عين الطاووس) والذي فعل فعله بمساحة كبيرة من الأراضي المشجرة بالزيتون وخرجت عن الخدمة، وبقية الخدمات التي يحتاجها المحصول من تقليم وتسميد وجني المحصول، الذي يتم حمله على أكتاف وظهور المزارعين لمسافات متفاوتة قد تصل إلى عدة كيلومترات وفي أماكن وعرة، وقد كانت الحيوانات سابقاً تقوم بهذه المهمة!
وأهم مطلب لهذه الجغرافيا هي الطرق الزراعية الصالحة للاستخدام الدائم، وإلا فإنها تخرج عن الخدمة سريعاً بعد موسم أمطار واحد!
وأسوأ كارثة تصيب الأخوة المزارعين هي الحرائق التي تلتهم سنوياً مساحات واسعة، وخاصة في أماكن التداخل بين الأراضي الحراجية والزيتون!
فبفعل كثافة الحشائش والنباتات الأخرى لعدم إمكانية حراثة الأرض، وبفعل النشاط البشري وعدم وجود طرقات زراعية أو نارية، تفعل النيران فعلها ويؤدي ذك إلى خروج هذه الأراضي عن الخدمة لسنين وسنين، عداك عن عدم توفر أنواع من الأسمدة اللازمة من قبل جهات الزراعة المعنية!
لذلك يطالب المزارعون بإعادة الدور الخدمي والاجتماعي لمؤسسات الوزارة وبقية الجهات المعنية، وخاصة على مستوى إعادة الدعم والاهتمام الجدي بالطرق الزراعية، وبالطرق النارية.
الزراعات السهلية
تتنوع الزراعات في هذه الأراضي، فمنها تزرع بمحاصيل بعلية ومنها زراعات محمية، والشكل الثالث سواء كان حمضيات أو أشجاراً استوائية أو محاصيل (القمح_ الفستق_ البطاطا ...) يعتمد على طريقتين في الري: أقنية الدولة من السدود السطحية _ آبار ارتوازية خاصة.
وتعاني هذه الزراعات بأشكال متفاوتة من عدم توفر السماد الكافي، والغلاء الفاحش للأدوية الزراعية ولأنواع من البذار، التي إضافة إلى رداءة إنتاجها فسعرها مرتفع أيضاً!
وأهم مشكلة في هذه الزراعات هي عدم توفر مادة المازوت بشكل كاف، سواء للجرارات الزراعية أو للآبار الارتوازية!
فقد أدت عملية إيقاف بطاقة المازوت، سواء للجرارات أو المحركات، إلى بقاء مساحات واسعة دون التمكن من حراثتها أو زراعتها بأي نوع من المحاصيل!
وقد عزا أحد رؤساء الجمعيات الفلاحية سبب توقف بطاقة المازوت إلى إشكالية خطة اللجان المسؤولة، التي توقفت بعد عملية الكشف على كل المحركات، إضافة إلى الغبن في عملية التوزيع بين أنواع الزراعات، والتأخر في تلبية طلبات المازوت، الذي خلق مشكلة اجتماعيه إضافة للمشكلة الزراعية!
فمثلاً: جمعية فيها مئات الأسماء المسجلة على مادة المازوت، يلبى منها مرحلياً (١٣) أسماً فقط!
الزراعات المحمية
تدرجت هذه الزراعات بأصناف محددة من الخضار وأهمها البندورة، لتتوسع إلى أصناف متعددة وأنواع أخرى، حسب نشاط المزارعين وتأثرهم بتجارب بعضهم وتجارب بعض الدول المجاورة!
ولغياب الخطط الزراعية من قبل الجهات المعنية، ولعدم وجود آليات ناظمة لعملية التسويق (سوق الهال)، ونتيجة لعدة عوامل متداخلة، يكون محصول بعض المزارعين لزراعة نوعٍ من الخضار ولصنف محدد قد أعطى إنتاجاً عالياً وقيمة سعرية مميزة، وبالتالي يتوجه المزارعون الآخرون لتكرار التجربة نفسها لهذا المنتج نفسه للمردودية العالية، فيتم اعتماده بشكل كبير وواسع من قبلهم، وبالتالي إذا نجا المحصول من الكوارث الطبيعية والأمراض، يكون الإنتاج عالياً، والكمية المطروحة بالسوق أعلى من حاجته فيهبط السعر، ويصبح مردوده لا يعوض التكاليف!
فاعتماد الخطط الزراعية المدروسة والمقنعة للمزارعين بنتائجها، من أهم الأدوار المناطة بالمؤسسات الزراعية المعنية بالأمر!
وقد اشتكى أحد رؤساء الجمعيات الفلاحية من معاناة هذه الزراعات، بأنه بالرغم من أسعار هذه المنتجات عالية الثمن بالنسبة للمواطن، لكن هذه الأسعار لا تغطي تكاليفها نتيجة غلاء مستلزمات الإنتاج، فالمستلزمات تخضع لسوق صرف العملة، والمنتجات تخضع لتقلبات السوق!
وطالب بتأمين مستلزمات الزراعة، وأهمها البذار والأسمدة والأدوية والنقل، وإعادة تفعيل الصيدليات الزراعية لاتحاد الفلاحين وتوسيع انتشار هذه الصيدليات على مستوى انتشار الوحدات الإرشادية.
الموارد المائية
لا يوجد على المساحة الجغرافية لمحافظة طرطوس، وخاصة في المناطق الزراعية السهلية، أية أنهار دائمة يعتمد عليها المزارعون في عملية الري، وإنما تنحصر كما ذكرنا أعلاه بالتالي:
الأول: أقنية الري التي قامت بإنشائها الدولة من خلال تجميع مياه الأنهار كسدود تجميع لغاية الري، واعتمدت أسلوبين من القنوات، منها مكشوفة عبر أقنية بيتونية مفتوحة، والأخرى مغطاة حسب طبيعة المنطقة ولها منافذ تحكم للمياه المتدفقة، يوضع ضمن جدول من الجهات المعنية بالتعاون مع الجمعيات والوحدات الإرشادية والمزارعين ضمن إدارة مديرية الموارد المائية.
والثانية: هي الآبار الارتوازية التي يعمل معظمها على (الديزل)، وهذه الآبار القديم منها (غير المرخص) أو الجديد (المرخص) هي آبار خاصة.
وبفعل تقلبات المناخ، والخوف من تراجع منسوب الموارد المائية، قامت الجهات المعنية بالتشديد على عملية (الهدر) للثروة المائية، سواء كان بالعبث بقنوات الري، من خلال إهمال المراقبين (كما يقول المزارعون)، أو من خلال التعديات وعدم الشعور بالمسؤولية وأهمية قناة ري تجري من أمام بيت أو أرض بعض المزارعين (كما ردت الموارد المائية) في الاجتماع المذكور.
والعنوان الأساسي لهذا التوجه هو التخلص من أسلوب الري القديم، الذي نسبة الهدر فيه عالية، والتوجه إلى أسلوب الري الحديث، والذي يحافظ على عملية الاستفادة من كل قطرة مياه، وهذا الأسلوب معتمد في معظم دول العالم وحتى دول الجوار.
فقد ذكرت مديرة الموارد المائية بأنه منذ العام «٢٠٠٢» هناك قرار كل مزارع لا يعتمد أسلوب الري الحديث «بالتنقيط» تمنع حصته من المياه، وبنفس الوقت طلب المدراء المعنيون من كافة المزارعين اعتماد أسلوب الري الحديث، وبأن هناك مهلة زمنية، وإلا ستطبق الإجراءات اللازمة، منها المحاسبة بقيمة المياه بسعر أعلى، ومن ثم منع المياه!
وللكلفة العالية لذلك المشروع، ولتسهيل ذلك التوجه على المزارع، يقدم المصرف الزراعي قرضاً تعفى «٤٠٪» من قيمته، ويتم تقسيط المبلغ المتبقي على «٧ سنوات» بدون فوائد، وبنفس الوقت يوفر بنسبة عالية عملية هدر السماد من خلال وضعه «بالسمّادة» وتذهب الكمية ضمن أنابيب التنقيط.
وقد تحدث أحد المعنيين عن كيفية إدارة الموارد المائية هذا العام لانخفاض منسوب المياه في السدود مقارنة بالعام الماضي، بأن هناك خصوصيات لمناطق زراعية بالكامل خارج خدمة قنوات الري يجب معالجتها!
وتم الحديث عن «إعادة إحياء البساتين الهرمة» بأن يقدم طلب إلى الوحدة الإرشادية التابع لها، ويتم أرسال «خبرة» إلى الأرض المعنية، وتحدد هذه الخبرة إذا كانت التربة صالحة لزراعة الأصناف التي يرغبها المزارع أم لا، ويعطى الغراس مجاناً، شرط أن يلتزم بتعليمات الجهة المعنية!
الثروة الحيوانية والعلف
حددت الجهات المعنية مخصصات كل «رأس بقر» ولكل ثلاثة أشهر «١٠٠» كغ علف من الدولة، وهذه كمية قليلة ولا تكفي، لذلك يلجأ المزارع إلى القطاع الخاص لتأمين الكمية اللازمة، وبأسعار تزداد يومياً، والعلف المجروش غير مرغوب للأبقار وطالبوا بالعلف «المبروم»!
وقد برر مدير المعمل بأن خط العلف المبروم متوقف عن العمل الآن بسبب عطل، ويتم إصلاحه من قبل المتعهد لأنه مازال «بعهدته» وسيعود إلى العمل قريباً!
واستغرب أحد رؤساء الجمعيات الفلاحية كيف يعطى لجمعية الكمية اللازمة على دفعات، وهذا يخلق مشكلة في التوزيع على أعضاء الجمعية، وخلق مشكلة اجتماعية نحن بغنى عنها، في حين تعطى الكمية دفعة واحدة للأفراد خارج الجمعية!
وقال: عن أي دور للجمعية الفلاحية تتكلمون؟
فكي يتحمل رئيس الجمعية المسؤولية عن تراجع جمعيته، أعطوه ما تحتاجه الجمعية من مستلزمات الإنتاج، ووفروا له القروض... وغيرها!
وكذلك اشتكى بعض الحاضرين من طريقة إحصاء رؤوس الأبقار للمربين من أجل مخصصاتهم من العلف، واعتبروا هذا الأسلوب مجحفاً وغير منصف، ويعطي أفضلية لهذا على ذاك!
وأقر رئيس اتحاد الفلاحين في طرطوس بأن إحصاء الأبقار من خلال عملية التلقيح للحمى القلاعية، واعتمادها في عد رؤوس الأبقار عند الفلاحين غير كافية وفيها ظلم!
فالإحصاء لا يعتمد على جولة واحدة بل جولات متعاقبة، لأن كثيراً من رؤوس الأبقار تكون في الرعي وخارج حظائرها أثناء جولة اللجنة المكلفة بذلك..
القانون رقم «٢٣»
لا توجد ملكيات كبيرة للمزارعين في محافظة طرطوس، وخلال جيلين تم تقسيم الأراضي الزراعية على الورثة وأصبحت الملكيات الكبيرة بالدونمات وليس بالهكتارات!
وكثير من المزارعين، كنشاط فردي، يرغبون بتربية الدواجن أو الأغنام والماعز أو الأبقار ضمن حيازتهم وخارج التجمعات السكنية، وهذا ما يتعارض مع القانون «٢٣» الذي لا يسمح ببناء غرفة واحدة ضمن حيازة أقل من «١,٥» هكتار، وهذه المساحات نادر وجودها في طرطوس، وإن وجدت تكون لبعض أصحاب رؤوس الأموال التي اشتروها من مزارعين لأسباب متعددة، وهؤلاء ليس بوارد ذهنهم تربية المواشي أو الدواجن لمساعدتهم بترميم جروح وقروح الحياة المعيشية التي يعاني منها معظم أصحاب الملكيات الصغيرة!
وبالتالي يضطر المزارع النشيط والراغب بذلك لاستخدام جزء من فضاء بيته لتربية تلك الدواجن أو الأبقار والأغنام، وبالتالي تصبح العلاقات الاجتماعية بين الأهالي رهن حكم البلديات والقضاء لكثرة الشكاوى، لما يتركه ذلك الأسلوب في تربية الحيوانات من بقايا وروائح وأصوات مزعجة في الليل، وأذية لأملاك الآخرين في عقاراتهم وأمام بيوتهم!
فخلال الاجتماع طالب أحد رؤساء الجمعيات لإحدى القرى القريبة من المدينة، بمنع تربية الدواجن والأغنام والأبقار ضمن القرية السكنية، لما تسببت به من آثار مدمرة للنسيج الاجتماعي في القرية، وخلق عداوات لم تكن موجودة سابقاً!
وتساءل: هل الجهات التي تصدر قانوناً ما، يمكن تطبيقه نسبياً في محافظة، ومن المستحيل تطبيقه في محافظة أخرى، لا تعرف ذلك؟!
إذاً كيف تعمم قانون لا يصلح لكل المساحة السورية؟
وبنفس الوقت يعاني بعض المزارعين في الأراضي القريبة من المدينة (الوطى) من عبث وأذية مربي الأغنام الذين استوطنوا بالقرب من المدينة مع أغنامهم وعائلاتهم منذ عشرات السنين!
فمنذ ذلك التاريخ والمشاكل قائمة بين بعض الرعاة غير الملتزمين بعدم أذية الآخرين في أماكن رعي أغنامهم، وقد اشتكى الكثير للجهات المعنية وأقيمت دعاوى كثيرة، ووصلت الصدامات مع الأهالي لحمل السلاح في بعض الأحيان!
فكثيراً ما تكون الأذية «قضم كل أطراف أشجار الزيتون»، ويقوم الراعي أحياناً بشد الأغصان الكبيرة للأسفل كي ترعاها أغنامه، وأحياناً يكسرها من الأعلى «عن قصد أو غير قصد»!
وتمت المطالبة كالعادة بترحيلهم أو تنظيم وجودهم في الأراضي السهلية، التي تزرع المحاصيل الصالحة مخلفاتها للرعي، وعدم السماح بالرعي ضمن أشجار الزيتون.
غيض من فيض!
ما سبق أعلاه يعتبر غيضاً من فيض معاناة الفلاحين والمزارعين في محافظة طرطوس!
فعلى الرغم من أهمية الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني في المحافظة، وعلى الرغم ما يؤمنه هذا الإنتاج على مستوى الأمن الغذائي، بمختلف المحاصيل الزراعية والمنتجات الحيوانية، وما يفيض منه عن حاجة السوق ويتم تصديره إلى الأسواق الخارجية، وعلى الرغم ما يؤمنه هذا القطاع من فرص عمل تعيل عشرات آلاف الأسر، إلا أن الواقع يشير إلى تراجع هذا الإنتاج عاماً بعد آخر!
فغياب الخطط الزراعية الموضوعية والواقعية يؤدي إلى عدم ضمان الأمن الغذائي، وغياب مصلحة الفلاحين فيها يؤدي إلى عزوفهم عن الإنتاج وهجرة الأرض، أي استمرار تراجع الإنتاج وخسارته!
كذلك فإن استمرار تراجع الدعم على هذا القطاع، وخاصة على مستوى مستلزمات الإنتاج، التي يتم الاضطرار إلى تأمينها عبر السوق والمتحكمين فيه، وبأسعارها الاحتكارية المرتفعة، يرفع من التكاليف على الفلاحين، بل وأحياناً يؤدي بهم إلى الخسارة، وبالتالي يرفع الأسعار على المستهلكين، علماً أن مقص الأرباح في ذلك لا يصب في مصلحة الفلاحين، بل في جيوب المتحكمين بالأسواق، تجار أسواق الهال والمصدّرين!
فالمطالب المحقة التي يمكن تلخيصها بإعادة الدور الاقتصادي الاجتماعي للدولة، بما في ذلك الدعم بشكل رئيسي، لا تعني ضمان مصلحة الفلاحين أو المستهلكين فقط، بل تضمن الأمن الغذائي للسوريين، كما تضمن المصلحة الوطنية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1117