تطويع الخشب أسهل من تطويع صعوبات الحياة!

تطويع الخشب أسهل من تطويع صعوبات الحياة!

الغوطة الشرقية متنفس دمشق ورئتها التي تتنفس منها الهواء، وتأكل من منتوجها الوافر، وتستظل بفيئها الذي تصنعه الأشجار الكثيفة في شوارعها وبساتينها، لكن من يعرف الغوطة قبل الحرب لن يعرفها بعدها، حيث الاختلاف كبير وكبير جداً!

فالطرقات إليها وبداخل بلداتها لا يمكن وصفها، بسبب رداءتها وكثرة الحفر فيها، والتي أصبحت مطبات تعرقل المرور، وتسبب الأذى للذاهبين إليها والعائدين منها!
فعند الزيارة لها، والدخول في الطريق إليها، ستكون المفاجأة أعظم، حيث البنايات المهدمة على طرفي الطريق بفعل الحرب، وانعدام الأشجار التي كانت تظلل العابرين لطرقاتها بفعل القص العشوائي لها لأسباب كثيرة، منها: البرد وضرورات التدفئة، فالحطب هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للبعض من أجل الدفء، بكل أسف!

صناعة الموبيليا الموؤدة بفعل فاعل!

اشتهرت بعض بلدات الغوطة، كما يعلم الجميع، بصناعاتها الحرفية للموبيليا والحفر على الخشب، وكانت هناك آلاف الورش المنتجة لهذه الصنعة العريقة قبل سني الحرب والأزمة، لتأتي الصناعات الغريبة عنها وتنافسها منافسة كبيرة أثرت على الورش العاملة، وعلى من يعمل بها من عمالٍ وحرفيين، وحولت قسما كبيراً منهم إلى عاطلين عن العمل!
فجزء من عمل هذه الورش، وهي منتشرة بكثرة في الغوطة الشرقية، كانت تعج بالعمال المهرة، حيث أصابها الجمود قبل الأزمة، وأصبحت مبيعاتها أقل بكثير مما سبق بسبب المستورد الأجنبي، الذي سمحت الحكومات السابقة لانفجار الأزمة بدخوله، وأصبح ينافس المنتج المحلي الذي يعمل به آلاف العمال بمختلف الاختصاصات ضمن صنعة النجارة.
وقد توقفت هذه الصنعة، وتوقف معها آلاف العمال والحرفيين، وأغلقت الورش أبوابها، وخسرت هذه الورش الكثير من الكفاءات، التي جزء منها بقي ولم يغادر مكانه، والجزء الآخر غادر كما غادر الملايين من أبناء شعبنا وطنهم بحثاً عن مكان آمن، ومكان يؤمن لهم قوت يومهم!

المتبقي يعاني!

بعد استعادة عوامل الأمان نسبياً، وعودة الأهالي إلى بلدات الغوطة، بدأت هذه الصنعة والحرفة باستعادة بعض إرثها، لكن مع استمرار الكثير من الصعوبات والمعيقات!
فورش النجارة التي تعمل في الموبيليا بكافة أنواعها (غرف نوم– طاولة سفرة– صوفايات..) تصنعها بمواصفات وجودة مختلفة، وذلك حسب السوق وحسب طلب الزبون وحاجته، وما يملك من قدرة على الشراء لهذه المصنوعات.
وعند دخولنا إلى إحدى الورش، وهي سابقاً كانت تضج بالعمل والعمال، لكنها الآن شبه خاوية وفارغة، ومعطلة عن الإنتاج لأسباب كثيرة، عددها لنا صاحب الورشة قائلاً:
«أصبحنا عاطلين عن العمل، واللي عم نشتغله ما بيجيب همه.. كهربا ما في.. مواد أولية يعني خشب وإكسسوارات ما في.. وإن وجدت أسعارها غاليه.. وبالنسبة للكهربا منعتمد على الأمبيرات ومندفع كل أسبوع 100 ألف ليرة سورية وسطياً ثمن استجرار الكهرباء لنشتغل ضمن الحد الأدنى».
كما أضاف معدداً الكثير من الصعوبات والمعيقات الأخرى، وخاصة على مستوى النفقات الإضافية والكثيرة، التي تزيد من التكاليف، وبالتالي تضاف إلى الأسعار التي تعتبر فوق إمكانية الشراء بالنسبة للغالبية من الناس، الذين أصبح همهم تأمين قوت يومهم على حساب بقية الاحتياجات.
فبحسب صاحب الورشة، أنه بالكاد يتمكن من بيع بعض قطع الموبيليا خلال الشهر، وأرباحها غير كافية على تغطية تكاليف معيشته مع أسرته، مع الكثير من التقشف، حيث يعتبر نفسه خاسراً بالنتيجة!
هذا بالنسبة لصاحب الورشة عل مستوى معاناته وصعوبات عمله، أما العامل الوحيد بهذه الورشة، وهو السيد «أبو عبد الله» مع معاناته فهذا شأن آخر!

حرفي ماهر بـ 400 ألف ليرة بالشهر!

«أبو عبدلله» رجل بالعقد الرابع من العمر، ويعمل في الحفر على الخشب حسب الرسمات التي تُطلب منه، وعمله هذا يتطلب فنّاً ومهارة عالية لدقة العمل ولإظهار جمالية الرسمة التي تبدع يداه على إظهارها.
بحسب أبو عبدلله، فإنه يتعامل مع خشب السنديان القاسي، ولكن مهارته القادرة على تطويع قساوة الخشب، كانت عاجزة عن تطويع قساوة متطلبات الحياة وضروراتها التي عاشها خلال سنوات الأزمة، وهو في مكانه لم يغادر وبقي إلى الآن رغم كل الصعوبات!
فأبو عبد الله لديه أربعة أطفال، وجميعهم في المدرسة، وكما قال: «أكيد معروف كفاية شو بدهم مصروف يومي وشهري ليروحوا ع المدرسة!».
وعن الأجرة التي يتقاضاها فقال: «100 ألف ليرة سورية بالأسبوع، يعني بالشهر 400 ألف.. لك هاد الأجر شو بده يكفي أكل أو مصاريف مدرسة أو معالجة للحكما إذا مرض حدا من العيلة جاوبوني شو بده يكفي؟!».
وخلال حديث استفزازي على ما يبدو عن كمية اللحمة في الطبخة التي تصنها زوجته لأفراد اسرته، ظهرت ملامح «زورة غضب» عجيبة منه، قائلاً: «يمكن بنجيب وقية لحمه لأسبوع واحد.. وأحيانا بيمر الشهر ما بنجيب شي.. هاد هو حالنا ما عاد بقدر قول أكثر»!
ومن المؤكد، أن حال أبو عبدلله معمم على معظم الحرفيين المتبقين إلى الآن، بأعدادهم القليلة، نتيجة التغيرات الكارثية التي جرت على البلاد والعباد، والمستمرة نحو الأسوأ!

تجريف الإنتاج والمنتجين!

أما ما يخص الغوطة على مستوى اعتبارها المتنفس القريب من دمشق، وخزان المنتجات الزراعية، بشقيها الحيواني والنباتي، فهو حديث آخر يطول ولا ينتهي!
فالكارثة التي طالت الإنتاج الزراعي في بلدات الغوطة أكثر سوءاً من الكارثة التي حلت بإنتاج معاملها وحرفيِّها المهرة بأشواط!
فالفلاحون فيها يعانون كذلك من تكاليف مستلزمات الإنتاج المرتفعة، وصولاً إلى خساراتهم السنوية المتراكمة، والعقبات والصعوبات الكثيرة التي يعانون منها للاستمرار في إنتاجهم!
فبلدات الغوطة التي تم تجريف معامل إنتاج الموبيليا منها، مع تجريف حرفيِّها المهرة، يتم تجريفها من العمل في الإنتاج الزراعي والمزارعين أيضاً!
فهل من المستغرب بعد ذلك القول: إن كل ذلك بفعل فاعل، ولمصلحة أصحاب الكروش الكبيرة فقط لا غير؟!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1115