توحش السياسات أعاد الاعتبار للمقايضة!

توحش السياسات أعاد الاعتبار للمقايضة!

تعددت الوسائل التي أبدعها السوريون خلال سنوات الأزمة لمواجهة أزماتهم اليومية، من فقر وارتفاع أسعار وعدم توفر المواد والسلع الأساسية، وصولاً إلى سوء الخدمات وترديها!

فقد انتشرت منذ عدة سنوات آليات البيع والشراء عن طريق مجموعات الفيسبوك لمختلف السلع والخدمات، وصولاً إلى العقارات والسيارات!
وما بدى مثيراً للاهتمام أكثر في الآونة الأخيرة هو انتشار مقايضة السلع والمواد الاستهلاكية بدون وسيط مالي، أو تبادل المواد الاستهلاكية التي تم الحصول عليها كمساعدات ومعونات مقابل سلع ومواد أخرى، بل مقابل خدمات معينة!
ففي حين يقوم البعض ببيع الطحين والعدس والبرغل عبر مجموعات الفيسبوك بأسعار أقل بكثير من سعر السوق، يقوم البعض الآخر بمقايضة بعض المواد والسلع بأخرى، بما يعرف بالـ «المداكشة»!
حيث يقوم البعض بمبادلة المازوت المتوفر لديهم بالبنزين، فيما يقوم البعض الآخر بمبادلة الغاز المنزلي بالمازوت أو البنزين وهكذا..، ويبدو أن هنالك طريقة جديدة لتسعير هذه السلع المواد بعيداً عن بيعها بشكل مباشر مقابل المال!
إذ تساوي ثمانية لترات من البنزين 10 لترات من المازوت في بعض المناطق، ويرتفع البدل إلى 10 لترات من البنزين حين تنخفض درجات الحرارة وتزداد الحاجة لمازوت للتدفئة، خاصة مع انعدام توفر هذه المواد في السوق النظامية، وتقلص كمياتها المخصصة رسمياً باسم الدعم، وارتفاع سعرها الكبير في السوق السوداء!
في أماكن أخرى، بدت عملية المقايضة مختلفة، إذ يقوم البعض باستبدال بعض من أثاث بيته، القديم المستعمل أو حتى الجديد نسبياً، مقابل المواد والسلع الاستهلاكية الأخرى!
فتجد بسهولة على مجموعات الفيسبوك انتشار مقايضة الأدوات المنزلية، كالكراسي أو البطانيات وغيرها، مقابل الطحين أو السكر، أو استبدال المواد المستلمة عن طريق المعونات بمواد وخدمات أخرى.
أمر المقايضة بهذا الشكل لم يقف عند حدود مجموعات الفيسبوك، بل انتشر وصولاً للمقايضة العيانية المباشرة في بعض المناطق!
ففي إحدى بلدات ريف دمشق تقوم أم وسيم بمبادلة الطحين والحمص مقابل أعمال خياطة تقوم بها إحدى جاراتها، في حين قامت جارتها الأخرى بمبادلة البطاطا التي تزرعها مقابل بعض أعمال الصيانة المنزلية، وقد انتشر هذا الشكل من تبادل السلع والخدمات في هذه البلدة وصولاً إلى البلدات المجاورة، لتصبح المقايضة على هذا الشكل أمراً شبه طبيعي، يعيدنا إلى سوابق تاريخية قريبة وليست بعيدة في الكثير من البلدات والقرى، بل وفيما بين المدن والأرياف!
ففي حين تعود فكرة المقايضة إلى زمن ماضٍ، قبل انتشار النقد كوسيط لعمليات البيع والشراء، تعود اليوم هذه الظاهرة للانتشار مع ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة المرتفعة، والحاجة الملحة لسد الاحتياجات الأساسية للسواد الأعظم من الناس المفقرين في البلاد!
فاللجوء إلى المقايضة، وفقاً للأشكال والآليات التي يتم العمل بها، تشير لا شك إلى ما وصل إليه المفقرون من حاجة وفقر، بل ومن جوع!
فالتخلي عن بعض المواد والسلع عبر المقايضة لا يعني عدم الحاجة لها، بل يعني حجم الاضطرار للبديل مقابل هذا التخلي بسبب العجز عن تأمينه عبر السوق وبأسعارها!
كذلك تشير عمليات المقايضة المنتشرة والمتسعة إلى محاولات هؤلاء المضطرين لها للتخلص من عوامل استغلال سماسرة البيع والشراء قدر الإمكان، ليصبح الأمر عبارة عن خدمة متبادلة بين المفقرين أنفسهم، بعيداً عن الغبن وعمولات الربح، وكأنه نموذج جديد للتكاتف الاجتماعي، بسبب التخلي الرسمي عن المسؤوليات والواجبات تجاه هؤلاء، حتى على مستوى أبسط الاحتياجات الغذائية!
ومع كل التقدير للإبداع الاضطراري للسوريين المفقرين، وأشكال التكاتف الاجتماعي العديدة التي تعمقت وانتشرت خلال سني الأزمة من خلالهم، وبكل اختصار يمكن القول: إن كل ما وصل إليه السوريون هي مؤشرات فاقعة للبؤس والشقاء والجوع المعمم عليهم من خلال السياسات المعمول بها، وكنتيجة حتمية لها!
فهذه السياسات المتوحشة التي فرضت على السوريين استعادة بوابير الكاز، كما فرضت عليهم استعادة مدافئ الحطب، وكذلك ضوّايات الإنارة، وصولاً لإعادة إحياء المقايضة، من غير المستبعد أن توصلنا بحال استمرارها إلى عُمق مجاهل التاريخ، تخلفاً وضعفاً ومرضاً وعوزاً وجوعاً!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1114