الشركات العامة الإنشائية بين الأهمية ومشاريع التفريط!
سمير علي سمير علي

الشركات العامة الإنشائية بين الأهمية ومشاريع التفريط!

أثبتت المشاريع العمرانية والسكنية، التي تم تنفيذها من قبل الشركات العامة الإنشائية، جدارتها على إثر الكارثة المستجدة، وخاصة ناحية جملها الإنشائية الملتزمة بكودات أنظمة البناء الهندسية والتصميمية المعتمدة رسمياً، وبشروط الأمان والسلامة، والمصممة ضد الزلازل، فقد كانت هذه الأبنية والمشيدات أقل تأثراً بالزلزال، وبشكل ملموس.

مقابل ذلك، وبعيداً عن التعميم، تبين أن الأبنية المنفذة من قبل متعهدي القطاع الخاص كانت الأكثر تضرراً بالزلزال، والأكثر كارثية هي تلك الأبنية المشادة في مناطق المخالفات والعشوائيات، ناحية عدم الالتزام بأنظمة البناء الهندسية وشروط الأمان والسلامة، بما في ذلك كود الزلازل!

الفوارق الملموسة ليست صدفة!

انهارت أبنية في المناطق المنكوبة بالزلزال مع كل أسف، وتصدعت أخرى وأصبح بعضها مهدداً بالانهيار، فيما لم تتأثر بعض الأبنية الأخرى في نفس هذه المناطق!
بالمقابل فقد تم تسجيل انهيار لبعض الأبنية خارج المناطق المنكوبة، وتضرر وتصدع أخرى، مع العلم أنها تعتبر بعيدة جداً عن هذه المناطق!
لا شك أن ذلك ليس صدفة، بل هو نتيجة تشابك الكثير من العوامل المجتمعة، اعتباراً من دراسة الأرض المشادة عليها هذه الأبنية وطبيعتها، مروراً بالتصميم والالتزام بالشروط الهندسية والفنية، بما في ذلك عوامل الأمان والسلامة والكود الزلزالي، وصولاً إلى حسن التنفيذ والمراقبة والإشراف، وليس انتهاءً بعوامل النهب والفساد والاستغلال.

مثال ملموس دون منح صكوك البراءة!

تشكل مناطق المخالفات والعشوائيات نسبة تتجاوز 60% من تعداد الأبنية السكنية المشادة في البلاد، لذلك كانت الكارثة والضرر فيها أكبر، مقابل بقية النسبة من مشاريع منظمة ومرخصة ومنفذة من قبل متعهدي القطاع الخاص وشركات الإنشاءات العامة، عبر المشاريع السكنية الخاصة بالمؤسسة العامة للإسكان (شبابي- عمالي- ادخار)، التي تأثرت بنسب أقل بكثير.
وبحسب مدير فرع المؤسسة العامة للإسكان في اللاذقية، خلال حديثه عن تأثير الزلزال على أبنية مشاريع المؤسسة في المحافظة، أن: «أبنية مشاريع السكن الشبابي والادخار السكني على أوتوستراد الثورة سليمة والحمد لله، حيث تم في البداية الكشف على الأبنية من قبل لجنة السلامة المشكلة من نقابة المهندسين ومجلس المدينة وفرع الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية، وجرى الكشف من قبلهم عليها بناء على طلبات فردية من بعض القاطنين، وتم التأكد أن جميع الأبنية بحالة ممتازة، ونحن كمؤسسة قمنا بعملية الكشف على جميع الأبنية وتبين أن جملها الإنشائية بحالة ممتازة ومستقرة، ولا يوجد إلا بعض الشقوق الشعرية البسيطة فقط في جدران البلوك فوق العتب لبعض البيوت، وهي تشققات شعرية بسيطة مستقلة عن الجملة الإنشائية، ولا تؤثر على سلامة البيت ولا البناء ولا على سلامة المواطنين، ولم يسجل سقوط أي جدار بلوك، فأبنيتنا جميعها مصممة ضد الزلازل، وهي دراسة لفرع الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية، والتنفيذ بإشرافنا وإشرافهم وبالتعاون مع الشركات العامة».
الحديث أعلاه يؤكد المؤكد بما يخص مشاريع الشركات العامة الإنشائية، ليس في محافظة اللاذقية فقط، بل وفي عموم المحافظات السورية، وليس على مستوى مشاريع السكن فقط، بل وفي مختلف المشاريع الإنشائية الأخرى.
بالمقابل ربما لا بد من الإشارة إلى أن ذلك لا يعني منح صكوك البراءة لهذه المشاريع من عوامل النهب والفساد في بعضها، وخاصة ما يتعلق بتعهدات الإكساء، التي يتم تنفيذها غالباً من قبل متعهدي القطاع الخاص!

دور الدولة المغيب والإصرار على التخلي الحكومي!

هذا الواقع الملموس على إثر الكارثة لا يشير فقط إلى الالتزام وحسن التنفيذ من قبل شركات الإنشاء العامة وبعض المتعهدين من القطاع الخاص، مقابل عدم الالتزام بالشروط الهندسية والفنية وبعوامل وشروط الأمان والسلامة من قبل آخرين، وخاصة في مناطق المخالفات والعشوائيات!
بل لعل الأهم من ذلك أنه يشير إلى النتائج الكارثية للتخلي الرسمي عن مهام الدولة بما يخص مشاريع السكن والإسكان النظامية، وبما يلبي الحاجة المتنامية له بالتوازي مع التزايد السكاني، ما أدى إلى زيادة السكن المخالف والعشوائي بهذه النسبة الكبيرة، وهي غالباً بعيدة عن الالتزام بالشروط الهندسية والفنية وبعوامل الأمان والسلامة، وعلى حساب المضطرين استغلالاً وفساداً، بل وعلى حساب حياة بعضهم كما أثبتت الوقائع من خلال الانهيارات التي تعرضت لها بعض الأبنية خلال السنوات الماضية وحتى الآن، ليس بسبب الزلزال فقط، بل قبل ذلك ولأسباب عديدة أخرى، بما في ذلك التهتك في البنية التحتية، وخاصة في شبكات الصرف الصحي، بالإضافة طبعاً إلى الانهيارات والأضرار الجزئية والكلية التي لحقت بالكثير من المدن والمناطق السكنية بنتيجة المعارك خلال سني الحرب والأزمة، والتي ما زالت آثارها ونتائجها الكارثية مستمرة حتى الآن!

مزيد من التفريط الرسمي!

خلال اجتماع لرئيس الحكومة مع وزارتي الأشغال العامة والإسكان والتنمية الإدارية، بتاريخ 13/2/2023، أكد رئيس مجلس الوزراء «أهمية الجهود التي تبذلها الشركات العامة الإنشائية وكوادرها وآلياتها في جميع المواقع التي تعرضت للزلزال والمساهمة في إنقاذ العالقين وانتشال الضحايا من تحت الركام ورفع الأنقاض، إضافة إلى دورها في تقييم الحالة الفنية للأبنية السكنية المتصدعة والمساهمة في المرحلة المقبلة بإعادة تأهيل وإعمار المناطق المتضررة».
الحديث الرسمي أعلاه عن أهمية الشركات العامة الإنشائية، وخاصة في ظروف الكارثة المستجدة، لم يحل دون التأكيد على الاستمرار بالنهج الحكومي المفرط بهذه الشركات، وبدورها ومهامها!
فقد جرى خلال الاجتماع «مناقشة السيناريوهات التي أعدتها وزارتا الأشغال العامة والإسكان والتنمية الإدارية، لدمج وإعادة هيكلة الشركات العامة الإنشائية وهي (الشركة العامة للبناء والتعمير- الشركة العامة للمشاريع المائية- الشركة العامة لأعمال الكهرباء والاتصالات- الشركة العامة للطرق والجسور)، حيث جرى التأكيد على أهمية أن تحقق أية عملية دمج قيمة مضافة لناحية تعزيز قوة وحضور هذه الشركات لتكون أكثر قدرة على التعاطي مع متطلبات إعادة الإعمار وتحسين موقعها المالي وتطوير آليات عملها».
ربما تحقق عمليات إعادة الهيكلة والدمج بعض المزايا الإضافية للشركات المدمجة، بحال ضرورتها، وبحال التقيد بغاياتها وأهدافها المفترضة بحسب ما يتم الإعلان عنه والتسويق له، لكن عمليات الدمج وإعادة الهيكلة المنفذة خلال العقود والسنين الماضية لبعض مؤسسات وشركات القطاع العام لم تحقق الغاية المعلنة منها افتراضاً، بل كانت نتائجها سلبية، سواء على مستوى الدور والمهام التي تم تحجيمها وتقويضها، أو على مستوى العاملين وحقوقهم ومستقبلهم!
وعلى الرغم من ذلك ما زالت الحكومة مستمرة بمسيرة التفريط بالمؤسسات والشركات العامة، تارة باسم إعادة الهيكلة والدمج، وتارة باسم التشاركية والخصخصة، المبطنة والمعلنة!

المهام الكبيرة وقطاع الدولة الضعيف!

إعادة الإعمار، كمهمة كبيرة وضرورية مستحقة، والقادمة لا شك على الرغم من كل الإعاقات الماثلة أمام البدء بها، تحتاج إلى جهاز دولة قوي بقدر كبر هذه المهمة، ليس من أجل حسن إدارتها وتوجيهها بما يحقق مصالح السوريين والمصلحة الوطنية منها فقط، بل ومن أجل المشاركة الفاعلة في تنفيذها ومراقبتها والإشراف عليها، عبر أذرع الدولة المتمثلة بالمؤسسات والشركات العامة.
فهل من الممكن القيام بهذه المهمة الكبيرة من خلال جهاز دولة ضعيف ومتهتك، كحال واقعنا البائس الحالي، وفي ظل الاستمرار بالنهج الرسمي المفرط بدور الدولة وبأذرعها وبمهامها على التوالي، ولمصلحة مَن الاستمرار بهذا النهج، وبالسياسات التفريطية بحقوق ومصالح البلاد والعباد؟!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1110
آخر تعديل على الإثنين, 20 شباط/فبراير 2023 08:58