المركزي والسياسات المتبعة.. لن يصلح العطار ما أفسد الدهر!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

المركزي والسياسات المتبعة.. لن يصلح العطار ما أفسد الدهر!

أصدر مصرف سورية المركزي خلال الأسبوع الماضي قرارات وتعاميم وأخباراً صحفية عدة متلاحقة، تضمنت فيما تضمنته اعترافاً غير مباشر بخطأ بعض القرارات والتوجهات المتخذة سابقاً من قبله (وفقاً للتوجهات الحكومية وبما يتوافق مع السياسات الاقتصادية المطبقة طبعاً)، واعترافاً مباشراً بسعر التداول «المحدد وفق العرض والطلب بسوق القطع غير الرسمي»، الذي قيل عنه سابقاً بأنه سعر «وهمي»!

وبحسب وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، في حديث عبر الفضائية السورية، إن «الإجراءات الحكومية الجديدة هدفها الحد من ارتفاع سعر الصرف والأسعار، وتسهيل التصدير والاستيراد، إضافة إلى تبسيط الإجراءات المالية والمصرفية، كما أنها تهدف إلى تنشيط الحياة الاقتصادية ودعم القطاع الإنتاجي الصناعي، وتمنح مزيداً من المرونة لتمويل توريدات بعض القطاعات الاقتصادية».
فهل ستكون انعكاسات تلك القرارات والإجراءات إيجابية فعلاً كما تحدث عنها الوزير أعلاه؟!

تعميم لا يرقى لأن يكون تصحيحاً!

التعميم الأول الذي صدر عن المركزي بتاريخ 29/1/2023 تضمن تعديل المبالغ المسموح بنقلها بين المحافظات برفقة مسافر، بحيث أصبح 15 مليون ليرة بدلاً من 5 ملايين ليرة.
إن هذا التعديل لا يرقى إلى درجة تسميته تصحيحاً لتعميم سابق!
فتحديد سقوف نقدية للمبالغ المسموح بنقلها برفقة مسافر بين المحافظات فيه مخالفة دستورية أصلاً، ولا أدل على ذلك من مفردة «يهيب» التي وردت بمتن التعميم السابق الذي صدر عن المركزي بحينه «حرصاً على سلامة الإخوة المواطنين وتجنباً لتعرضهم لأية مخاطر أثناء عمليات نقل الأموال»، فيما غابت هذه المفردة عن مضمون التعميم الجديد!
ومن المفترض إلغاء التعميم السابق، وليس تعديل السقوف بموجب التعميم الجديد فقط!

أن تأتي متأخراً!

وقد صدر عن المصرف المركزي قرار بتاريخ 1/2/2023 تضمن إصدار (نشرة الحوالات والصرافة لشراء القطع الأجنبي نقداً من الأشخاص الطبيعيين عن طريق شركات الصرافة والمصارف العامة المرخص لها التعامل بالقطع الأجنبي، وشراء الحوالات الخارجية التجارية والحوالات الواردة للأشخاص الطبيعيين والحوالات الواردة عبر شبكات التحويل العالمية- نشرة المصارف)، على أن يعتبر نافذاً من تاريخ 2/2/2023.
وفي نشرة الحوالات والصرافة الصادرة بتاريخ 2/2/2023 تم تحديد سعر صرف الدولار مقابل الليرة بـ 6650 ليرة.
إن القرار أعلاه، وإن كان غير كافٍ ومع التحفظ على تبعاته، ينطبق عليه مقولة أن تأتي متأخراً!
فمطلب استقطاب الحوالات رسمياً بدلاً من تركها للسوق غير الرسمي، أي لبعض حيتان أصحاب الأرباح من تجار العملة والمضاربين على الليرة، هو مطلب قديم، وقد تمت المطالبة به مراراً وتكراراً من قبل المواطنين ومن قبل الفعاليات الاقتصادية في البلاد!
فهل ستتحقق الغاية المرجوة من القرار أعلاه لمصلحة الدولة والمواطنين والفعاليات الاقتصادية، أم سيتم تجييره كعتبة وفرصة ربحية جديدة لحيتان النهب من المضاربين على العملة؟!

1108-1

استجابة لمطالب مكررة

كذلك صدر قرار بتاريخ 2/2/2023 تضمن تعديل قائمة المواد الخاضعة لأحكام القرار رقم 1070/ل.إ تاريخ 31/08/2021 وتعديلاته، أي المواد المستوردة وطرق تمويلها، ومصادر ذلك التمويل.
وهذا القرار أيضاً هو تصويب لقرارات سابقة بشأن تمويل المستوردات، وتأمين بعض مستلزمات الإنتاج الصناعي، ويأتي استجابة لمطالب الصناعيين والمستوردين المتكررة خلال السنوات السابقة!
وقد تبع القرار خبر صحفي من المصرف المركزي بتاريخ 2/2/2023 يقول: «انسجاماً مع التوجهات الحكومية لدعم العمليات الإنتاجية، وتماشياً مع اقتراحات اتحاد غرف الصناعة، لتشجيع الصناعيين على استخدام مدخراتهم لزيادة الطاقة الإنتاجية، أصدر مصرف سورية المركزي القرار 149 القاضي بتعديل القائمة المرفقة بالقرار 1070 لعام 2021، بحيث تم السماح لمستوردي فئة واسعة من المواد الأولية اللازمة للصناعة، باستخدام مصدر التمويل المناسب، إما من خلال شركات الصرافة، أو من حساباتهم في الخارج، أو من مصادرهم الذاتية المشروعة».
وما علينا إلا انتظار «إيجابيات» مضمون القرار بعد البدء بتنفيذه، والتي من المفترض أن تنعكس على الصناعة والإنتاج، وعلى الأسعار في الأسواق، مع قلة الثقة بتلمس تلك الإيجابيات، المتأتية أصلاً من انعدام الثقة بالإجراءات والسياسات الحكومية كلاً وجزءاً، التي لا تصب بمصلحة الإنتاج أو بمصلحة المواطن، بل بمصلحة حيتان النهب والفساد فقط لا غير!

اعتراف بسعر التداول «الوهمي»!

وقد صدر أيضاً عن المصرف المركزي بتاريخ 2/2/2023 خبر صحفي آخر تضمن التالي: «أصدر مصرف سورية المركزي القرار رقم ١٤٤، الخاص باعتماد نشرة أسعار صرف جديدة باسم نشرة الحوالات والصرافة، يسمح بموجبها للمصارف وشركات الصرافة بتسلم قيم الحوالات الخارجية الواردة وتصريف المبالغ النقدية (كاش)، وفق سعر صرف مقارب لسعر التداول (السعر المحدد وفق العرض والطلب بسوق القطع غير الرسمي)، ويحقق هذا القرار ميزات هامة إضافةً لتعديل سعر الحوالات والتصريف، وهي: - تسهيل عمليات التصريف المباشر لدى المصارف- رفع سعر تصريف الحوالات الواردة عبر شبكات التحويل العالمية كوسترن يونيون».
الخبر الصحفي أعلاه يتضمن من الناحية العملية اعترافاً مباشراً بسعر التداول في سوق القطع غير الرسمي، كما أنه يسقط كل الحديث الرسمي السابق عن هذا السعر بأنه «وهمي»، وما تبع ذلك من إجراءات مستمرة حتى الآن، بما في ذلك مساعي كم أفواه المواطنين بالحديث المتذمر عن هذا السعر، وتلك السوق!

مَن يتبع مَن؟

كذلك فإن مضمون الخبر الصحفي أعلاه فيه تأكيد ضمني أن سعر الصرف الرسمي هو من يتبع سعر التداول في السوق غير الرسمي، وليس العكس!
فبحسب حديث مدير مديرية العمليات المصرفية لدى مصرف سورية المركزي عن نشرة الحوالات والصرافة، عبر شام إف إم، فإن «النشرة تتغير باستمرار وستصدر يومياً عبر المصرف المركزي لتراعي المتغيرات»!
فالعتبة السعرية الجديدة التي تم اعتمادها لسعر الصرف مقابل الدولار ستكون هي منصة انطلاق الحد الأدنى لسعر التداول في السوق غير الرسمية، وهي ما يمكن اعتباره متغيراً سيتم مراعاته مع كل نشرة صادرة لاحقاً على ما يبدو!
والأمر على هذا النحو يبدو وكأنه تنافس بين المركزي والسوق غير الرسمية على استقطاب القطع الأجنبي «وفق العرض والطلب في سوق القطع» بحسب الخبر الصحفي، ولمصلحة القائمين على السوق غير الرسمية والمستفيدين منها، انتقالاً من عتبة سعرية إلى عتبة سعرية أعلى، فيما يتم حصاد النتائج السلبية لذلك على حساب المواطن والاقتصاد والمصلحة الوطنية، وهو ما جرى ويجري حتى الآن!
فهل نتوقع اعترافاً كاملاً بهذه السوق مع شرعنتها، في ظل مساعي الدفع باتجاه تعويم قيمة الليرة مستقبلاً؟!
القوة الشرائية والعتبة السعرية الجديدة
كذلك قال مدير مديرية العمليات المصرفية لدى مصرف سورية المركزي ما يلي: «قرار المصرف المركزي بإصدار نشرة خاصة بالحوالات والصرافة وتحديد سعر الصرف بـ6650 ليرة، موجه لمن يتلقى الحوالات الخارجية، وله أثر إيجابي بغرض دعم القوة الشرائية للمواطنين»!
بالمقابل فإن السعر أعلاه، أصبح عملياً هو العتبة الجديدة لسعر الحد الأدنى للمواد والسلع والخدمات في الأسواق، والمفتوح كسقف، توازياً مع سعر التداول في السوق غير الرسمي، الذي تم الاعتراف به بشكل مباشر، دون شرعنته حتى الآن!
فالبداية الكارثية المباشرة التي تمثلت بتخفيض قيمة الليرة بشكل رسمي مقابل الدولار، بسعرها الجديد كعتبة والبالغ 6650 ليرة، ارتفاعاً عن 4522 ليرة، وبنسبة تخفيض بلغت 47% تقريباً، تعني المزيد من الآثار الكارثية على الواقع الاقتصادي العام، وعلى المفقرين بشكل خاص!
فالانعكاسات السلبية على القيمة الشرائية لليرة بدأت تظهر تباعاً على أسعار البضائع في الأسواق ارتفاعاً، على عكس ما صرح به المدير أعلاه!
فكيف يتم دعم القوة الشرائية للمواطن من خلال تخفيض سعر الليرة مقابل الدولار (الذي يتم من خلاله تسعير كل السلع والمواد والبضائع والخدمات في البلاد)، دون النظر لدخل هذا المواطن، الذي من المفترض أن يؤمن له الحد الأدنى من متطلبات معيشته وخدماته، ودون تقديم الدعم الفعلي للإنتاج الحقيقي (الزراعي والصناعي) الداعم الأساسي لقيمة الليرة ولقوتها الشرائية؟!

وهم التعويل على السياسات الفاسدة

لن نقلل من أهمية بعض القرارات والتوجهات الجديدة المتخذة تصويباً لقرارات وتوجهات خاطئة سابقة، ودون التعويل عليها طبعاً بما يخص الواقع الاقتصادي العام في البلاد!
فالقرارات والتوجهات التي تم الاعتراف غير المباشر بخطئها، من خلال جملة القرارات التصويبية أعلاه، ودون المحاسبة عن نتائجها الكارثية على الواقع المعيشي والإنتاجي والخدمي والاقتصادي العام، تعتبر مثالاً بسيطاً عن جملة السياسات والإجراءات المتبعة، ليس تخبطاً ولا ارتجالاً ولا تجريباً، بل نهجاً رسمياً متبعاً ومستمرّاً!
ولعل الوهم الحقيقي يتمثل باللهو ببعض القرارات والإجراءات المتخذة رسمياً، دون الاقتراب من تصويب أو تعديل جوهر السياسات النقدية، والقطع مع جملة السياسات الاقتصادية الليبرالية المتبعة عموماً، والمحابية لمصالح أصحاب الأرباح على طول الخط، بما في ذلك تجار العملة والمضاربين عليها!
فالمصرف المركزي، الذي أصبح يتسيّد المشهد الاقتصادي الرسمي، كان وما زال وسيبقى عاجزاً عن إصلاح ما أفسدته جملة السياسات المعمول بها والمستمرة، بما في ذلك السياسات النقدية نفسها!
فالسياسات الفاسدة لن تنتج إلا المزيد من الفساد والإفساد، والمزيد من الإفقار والإنهاك للعباد، وابتلاع وتقويض كل إمكانات البلاد!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1108
آخر تعديل على الإثنين, 06 شباط/فبراير 2023 10:59