الفساد المتحكم الحصري بمنافذ استمرار حياة العباد والبلاد
أعلنت وزارة الزراعة يوم 13 كانون الثاني عن بدء بيع الدفعة الثانية من الأسمدة الآزوتية اللازمة لموسم محصول القمح الحالي، وذلك عبر فروع المصرف الزراعي التعاوني...
وبين دفعة السماد الأولى التي لم يُستكمل توزيعها بعد، والثانية التي أعلن عنها رسمياً، تتعالى أصوات المزارعين المشتكين من سوء الأوضاع التي وصل إليها القطاع الزراعي عموماً، وما نتج عن ذلك من عزوف أعداد كبيرة من المزارعين عن الزراعة، وصولاً إلى هجرة الأرض كلياً من قبل بعضهم...
السماد الحكومي «من الجمل أذنو»
حكاية التراجع الزراعي مستمرة وتتفاقم، وعندما يُسأل المزارع عن الصعوبات التي تواجهه، يقف في حيرة من أمره، من أين يبتدئ حكاية معاناته المريرة؟
فما يحصل عليه المزارع من الدعم الحكومي لا يشكل من نسبة تكاليف الإنتاج شيئاً، هذا إن حصل عليه طبعاً، وأبرز مثال حاضر هو كمية الأسمدة الزراعية التي تم تخصيصها لموسم القمح 2022-2023.
فبحسب المزارعين فإن الكمية المخصصة للدونم الواحد لا تتعدى 7 كغ، وعلى الرغم من قلتها مقارنة بالاحتياج الحقيقي فقد جرى تقسيمها على أربع دفعات، والدفعة الأولى لم تتعدَّ 2,7كغ للدونم الواحد!
مع العلم أن المخصصات مشروطة «بالمزارعين الذين حصلوا على التنظيم الزراعي أو الكشف الحسي للقطاعين التعاوني والفردي لكامل الكمية المخصصة لوحدة المساحة وفق جدول الاحتياج المعتمد لتمويل مستلزمات الإنتاج الممولة من المصرف».
يقدر المزارعون الحاجة الفعلية للدونم الواحد من السماد بين 25 و50 كغ، وفعلياً فإن ما توفره المصارف الزراعية، بحال حصل عليه المزارع، لا يشكل شيئاً من الحاجة الحقيقية، وهذا ما أكده رئيس اتحاد الفلاحين في اللاذقية خلال شهر كانون الأول الماضي حيث قال: «الكميات المخصصة من سماد اليوريا لكل دونم من القمح غير كافية، وتم توزيع 2,7كغ من القمح لكل دونم قمح كدفعة أولى، أما فعلياً فهو يحتاج لـ 11كغ».
كما تجدر الإشارة إلى أن الحكومة كانت قد أخرجت الأسمدة خلال العام 2021 من خانة المواد المدعومة، ليصار إلى بيعها وفق السعر الرائج عبر المصرف الزراعي التعاوني، ومع ذلك ما زالت توفره للمزارع إعلامياً وليس فعلياً، وبكميات لا تذكر، ولمحاصيل زراعية محددة!
ومن خلال المقارنة بين ما توفره الحكومة وما يحتاجه المزارع على مستوى الأسمدة فقط، يتبين لنا حجم الأعباء الهائلة الملقاة على عاتق المزارع لتأمين مستلزمات الإنتاج، والتي وضعتها الجهات الرسمية بكل طواعية بعهدة تجار الفساد، لتصبح الراعي الرسمي من خلال قراراتها تلك لمد الفساد الكبير وزيادة توغله وسطوته...
تكلفة الدونم الحقيقية وانعكاسه
تعد تكلفة الأسمدة واحدة من جملة الأعباء التي تثقل كاهل المزارع، يضاف إلى ذلك معضلة تأمين المحروقات اللازمة لعمليات السقاية، حيث يعد محصول القمح المروي من أكثر المحاصيل التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، بالإضافة إلى المبيدات، ناهيك عن عمليات تجهيز الأرض للزراعة كالحراثة وغيرها...
وقد ذكر أحد المزارعين لإحدى الصحف المحلية أن «تكلفة الدونم الواحد تقدر بـ400 ألف، بين الحراثة التي تتراوح تكلفتها بين 35 و50 ألفاً، و٨٦ ألف ليرة ثمن ٣٠ كغ بذار، و٣٠٠ ألف ليرة ثمن كيس السماد زنة ٥٠ كغ، مع العلم أن كل دونم يحتاج ما بين ٢٥- ٥٠ كغ من السماد، هذا ولم نتحدث عن سماد اليوريا لاحقاً ورشّ الأرض بالمبيدات وغيرهما.»
إن ارتفاع تكاليف الإنتاج هذه لم يسبق لها مثيل، فقد أصبح سعر طن سماد بـ 3 ملايين، قابلاً للزيادة طبعاً مع متغيرات الأسعار، بالإضافة إلى جملة الارتفاعات التي طالت المحروقات والبذار وغيرها من مستلزمات الإنتاج... إلخ.
ومع تخلي الحكومة عن دورها بعملية دعم الزراعة باتت إمكانية الاستمرار بزراعة محصول القمح، وكافة المحاصيل الزراعية الأخرى، مهددة بالتراجع أكثر فأكثر، خصوصاً مع غياب قدرة المزارع على تحمل تكاليف تأمين مستلزمات الإنتاج، وعدم الجدوى من تعويض خسائره في المرحلة الأخيرة من عملية الإنتاج المقصود بها بيع المحصول، مما أدى بنهاية المطاف إلى عزوف عدد كبير من المزارعين عن زراعة المحاصيل الإستراتيجية، واستبدالها بمحاصيل أخرى لا تستهلك منهم الكثير من الجهد والوقت والتكلفة، ناهيك أن جملة الارتفاعات هذه لها انعكاس مباشر أيضاً ليس فقط على المزارع، بل وعلى المستهلك أيضاً من خلال الارتفاعات التي تطال أسعار الخضار والفواكه والمواد الغذائية التي تدخل في صناعتها تلك المحاصيل، إذا ما توقفت نتيجة قلة إنتاجها وتوفرها أيضاً!
ماذا يعني ولمصلحة من سحب الدعم؟!
يعزى الخراب الذي حل بقطاع الزراعة لأسباب مباشرة عدة مرتبطة بالسياسات الليبرالية المطبقة، كخنق الدعم الحكومي وتخلي القطاعات العامة عن تأمين المواد الأولية اللازمة للإنتاج الزراعي وذلك لصالح تجار النهب والفساد، وخاصة بحجج الحصار والعقوبات... والقائمة تطول بأسبابها الواهية وقد حفظناها جميعاً، تاركين المزارعين في وسط مستنقع استغلال السوق السوداء وتجارها لحاجاتهم غير المتوفرة إلا عن طريقهم حصراً!
إن منهجية السياسات الحكومة هذه جعلت عمليات تأمين كافة مستلزمات الإنتاج بيد قلة من تجار الاستغلال والفساد الكبير، لتؤدي بنهاية المطاف إلى تحقيق هدفها المنشود ألا وهو ضرب الإنتاج الزراعي كاملاً، لمصلحة توفيره عبر عمليات الاستيراد، ولصالح مافيات الاستيراد والتصدير وزيادة أرصدتهم النهبوية من جيب المواطن وعلى حساب الاقتصاد الوطني.
فليس خافياً على أحد أنه خلال العقدين الماضيين قد طرأ تغيّر على شكل ودور الدولة بإدارة قطاعتها من خلال اعتماد السياسات الليبرالية، والتي وصلت إلى النتائج الأكثر كارثية على الإطلاق خلال السنوات الأخيرة، وحتى يومنا هذا!
فقد تخلت الدولة، توافقاً مع السياسات الليبرالية المشؤومة، عن دورها بتأمين متطلبات الحياة بشكل شبه كامل لصالح تجار ومافيات الفساد الكبير، وليقتصر وجودها عبر الدور الحكومي على سن التشريعات والقرارات التي تزيد من مد نفوذ الفساد، ليصبح المتحكم الحصري والوحيد بمنافذ استمرار حياة العباد والبلاد...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1105