السياسات النقدية الترقيعية ومزيد من الافقار والجوع!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

السياسات النقدية الترقيعية ومزيد من الافقار والجوع!

عدّل المصرف المركزي سعر صرف الدولار مقابل الليرة بتاريخ 2/1/2023، بحيث أصبح 4522 ليرة مقابل كل 1 دولار، بعد أن كان 3015 ليرة، أي بنسبة زيادة قدرها 50% دفعة واحدة.

قبل يوم من التاريخ أعلاه كان المصرف المركزي قد أعلن عبر صفحته الرسمية ما يلي: «يستمر مصرف سورية المركزي بمراقبة استقرار سعر الصرف في السوق المحلية واتخاذ كافة الوسائل والإجراءات الممكنة لإعادة التوازن إلى الليرة السورية، ومتابعة ومعالجة كافة العمليات غير المشروعة التي تنال من استقرار سعر الصرف».
أي إن خطوة رفع سعر الصرف، بحسب المركزي، تعتبر إحدى وسائل إعادة التوازن إلى الليرة، والإجراءات المتخذة من قبله أدت إلى خفض سعر الصرف في السوق الموازي!
فالدولار الموازي انخفض بحسب المركزي، لكن الأسعار لم تنخفض بما يعادل نسبة هذا الانخفاض على أرض الواقع!
فما هي فائدة التدخل الرسمي بسوق الصرف إن لم تنعكس على معيشة المواطنين إيجاباً بالمحصلة؟!
وما هي الآثار الكارثية التي تنتظر المواطنين جراء تداعيات خطوة رفع سعر الصرف الرسمية أعلاه؟
وهل تكفي الإجراءات والسياسات النقدية منفردة، أم إنها ترقيعات دون جدوى؟

سلسلة رفع أسعار ستبدأ ولن تنتهي!

النتيجة الأولية المحسومة هي أن رفع سعر الصرف رسمياً، وبهذه النسبة الكبيرة دفعة واحدة، ستتبعه سلسلة من زيادة الأسعار على السلع والخدمات.
وهذا ما تمت الإشارة إليه خلال حديث السيدة مها عبد الرحمن المدير المشرف وعضو لجنة الإدارة في مصرف سورية المركزي ضمن برنامج المختار على إذاعة المدينة إف إم بتاريخ 2/1/2023، بأن: «هناك تغييراً في الأسعار مع بداية السنة المالية وكل سياساتنا تصب في ضبط سعر الصرف».
فإذا كانت البداية رسمياً تمثلت برفع سعر مادة البنزين أوكتان 95، فإن ذلك يعني أن بقية المشتقات النفطية بطريقها إلى الرفع الرسمي أيضاً، وكذلك بقية المواد المستوردة الممولة رسمياً (بعض الغذائيات والأدوية وغيرها)، وستقوم كافة الفعاليات الاقتصادية الحكومية بإعادة حساب تكاليفها، وبالتالي ستقوم برفع أسعار منتجاتها وخدماتها!
فالرفع السعري الرسمي لأية سلعة أو مادة أو خدمة، وبأية نسبة، سيكون عبارة عن مهماز لسلسلة غير منتهية من الارتفاعات السعرية التي ستطال كافة المواد والسلع والخدمات في الأسواق، وهو ما درجت عليه العادة، بل وغالباً ما يتم تجاوز نسب الرفع في الأسواق عن نسب الرفع الرسمي، ناهيك بأن الارتفاعات السعرية في الأسواق لم تعدم ذرائعها، فكيف بوجود ذرائع رسمية!
وأسوأ تداعيات لرفع الأسعار الرسمية تكون عند زيادة أسعار المشتقات النفطية، باعتبارها مُدخلاً أساسياً في حسابات التكلفة لأية سلعة أو خدمة!

انخفاض القيمة الشرائية للأجر

رفع سعر الصرف الرسمي بنسبة 50%، وما تبعه وسيتبعه من ارتفاعات سعرية ستطال كافة أسعار السلع والخدمات، وبنسب أعلى من ذلك، وفي ظل استمرار سياسات تجميد الأجور، يعني أن القيمة الشرائية للأجور قد تآكلت بنسبة 50% بالحد الأدنى، والحديث هنا عن الأجور الرسمية للعاملين في القطاعات والمؤسسات الحكومية، وغير الرسمية في القطاعات والفعاليات الخاصة!
فالكارثة المعيشية والخدمية التي يعيشها السوريون ستتعمق أكثر بسبب استمرار سياسات تجميد الأجور، باعتبار الأجور الرسمية معياراً لحساب الأجور في القطاع الخاص، وسيكون حال السوريين من سيئ إلى أسوأ، فالفقر سيزداد، والجوع سيتفاقم!
فالارتفاعات السعرية سيتحملها المواطن من جيبه وعلى حساب ضروراته الحياتية، أي مزيد من الإفقار للغالبية المفقرة سلفاً، وهذا ما بدا جلياً ومباشراً على أسعار الكثير من المواد والسلع في الأسواق، بدرجات ونسب متفاوتة، وهذا يعني بالنتيجة أن ملايين السوريين تم دفعهم بخطوة إضافية رسمية، وكبيرة هذه المرة، نحو المزيد من العوز والجوع!

المركزي هو من يتبع الموازي في عتباته!

بتاريخ 3/1/2023 تحدث مدير مديرية العمليات المصرفية في مصرف سورية المركزي فؤاد علي لإذاعة نينار إف إم أن: «هدف مصرف سورية المركزي هو تحقيق استقرار نسبي بسعر الصرف وسيكون هناك بالأيام القادمة محاولات للوصول إلى سعر عادل ومناسب للاقتصاد الوطني وللمؤسسات العاملة.. المصرف المركزي يحاول بشكل دائم أن يقرب الفجوة ما بين سعر الصرف بالسوق السوداء وسعره بالمصرف المركزي لقطع الطريق على المضاربين».
فتقريب الفجوة مع سعر الصرف بالسوق السوداء، وفقاً للسياسات النقدية التي يتبعها المركزي بحسب إجراءاته المعتادة، تعني أن المركزي هو من يتبع الموازي في سعر الصرف، وليس العكس!
فالعتبات الصاعدة التي يتم الانتقال إليها بين الحين والآخر على مستوى سعر الصرف الرسمي تحددها عتبات سعر الصرف في السوق الموازي، وليس إجراءات المركزي المحدودة والقاصرة والمنفردة.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن الوصول إلى حال الاستقرار النسبي إثر الانتقال من عتبة سعرية إلى أخرى رسمياً، تعتبر فرصة إضافية للتربح من قبل المضاربين في السوق السوداء، حيث يتم تثبيت عتبة جديدة لسعر الصرف الموازي يستقر بها نسبياً مع النزوع نحو العتبة الأعلى صعوداً، وهكذا من عتبة إلى أخرى دون سقوف، وهو ما جرى ويجري حتى الآن!

السياسات النقدية غير كافية!

أما الحديث عن السعر العادل والمناسب للاقتصاد الوطني وللمؤسسات العاملة، في ظل الاكتفاء بخطوات المركزي، أو بالسياسات النقدية المتبعة منفردة، فهو لذر الرماد في العيون ليس إلا!
فالسياسات النقدية لوحدها عاجزة عن تحقيق العدالة المنشودة للاقتصاد الوطني، وقد سبق أن تم الاعتراف بذلك العجز من قبل المركزي نفسه عند الحديث عن التضخم ونسبه في الموازنات العامة للدولة!
فالسياسات النقدية، مهما كانت جيدة كإجراءات وتقييم، يجب أن تترافق مع سياسات مالية وضريبية وأجرية، واقتصادية عامة، بنفس الجودة، وإلا فلا نتائج إيجابية يمكن حصادها من تلك السياسات النقدية المنفردة، وأياً كانت إجراءاتها المتبعة في ذلك، فكيف إن كانت بعض هذه الإجراءات غير جيدة!
لا حلول إلا بتغيير جملة السياسات!
لا مجال لتجميل قبح الواقع وفجاجته، ولا فرصة أمام أية إجراءات هامشية وترقيعية هنا أو هناك، بعيداً عن ملامسة جوهر الأزمة وأسها الأساسي المتمثل بجملة السياسات الليبرالية المتبعة رسمياً، والمسخرة لخدمة ولمصلحة القلة من كبار أصحاب الأرباح الناهبين، بما في ذلك المضاربون على العملة طبعاً، على حساب الغالبية المفقرة من أصحاب الأجور المنهوبين، والتي وصلت إلى درجات غير مسبوقة من التوحش، ليس على مستوى استنزاف ووقف حال البلاد وإفقار العباد فقط، بل وصلت إلى مرحلة التضحية بالبلد نفسها كدولة وكشعب، وحدةً وسيادةً!
فلا حلول مالية أو نقدية أو اقتصادية لجملة ما تعانيه البلاد من أزمات على كافة المستويات، والأمثلة على ذلك باتت أكثر من أن تعد وتحصى، كترقيعات هامشية وتسويفات ومماطلات ووعود خلبية!
فالحل، وبكل اختصار، سياسي بامتياز، يبدأ وينتهي بالتغيير الجذري والعميق والشامل، للسياسات الليبرالية المتوحشة، ولكل البنية والمنظومة المستفيدة منها والمستقوية بها، نفوذاً وفساداً ونهباً وموبقات!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1104