موسم الذرة.. عبرة وعِظة للمزارعين!
بدأ موسم حصاد الذرة الصفراء، وبتوقعات إنتاجية عالية لم يسبق لها مثيل منذ ما قبل سنوات انفجار الأزمة السورية، حيث قَدرتْ المؤسسة العامة للأعلاف إنتاج المساحات المزروعة بالذرة لهذا العام بحدود 500 ألف طن، بالإضافة إلى ما توفره هذه المادة من مجموع خضري يقدر بنحو مليون و500 ألف طن.
هذا الإنتاج بمجموعه يغطي بحسب تقديرات رسمية نسبة تتراوح بين 70 -80% من المادة العلفية اللازمة لتغذية قطيع الثروة الحيوانية...
فما الأسباب التي أدت إلى إقبال المزارعين على زيادة هذه الزراعة، وفي هذا الوقت بالتحديد، مقارنة بغيرها من الزراعات الأخرى، بل ومثيلاتها من الزراعات خلال السنوات السابقة؟ على اعتبار أن الذرة الصفراء تعد من المحاصيل الاستراتيجية الأساسية بعد القمح والقطن على مستوى القطر..
وهل كان الاهتمام الرسمي بالمحصول لتعزيز إنتاجه أم لتقويضه؟!
تفاصيل رسمية
بحسب التصريحات الرسمية، تمت زراعة 55 ألف هكتار من الذرة الصفراء لهذا العام، وقُدِرَ حجم الإنتاج بنحو 500 ألف طن من حبوب الذرة الصفراء، وهو إنتاج وفير ومفاجئ لوزارة الزراعة!
فبحسب تصريحات رسمية لمدير مؤسسة الأعلاف، فإن المساحات المزروعة لهذا العام تقدر بنصف المساحات التي كانت تزرع قبل سنوات الأزمة، وعلى الرغم من ذلك كان إنتاجها وفيراً بشكل كبير، إذا ما قُرِنَ بحجم الإنتاج خلال تلك السنوات، والذي بلغ 100 ألف طن حينها.
أما عن السبب، فقد أكد مدير المؤسسة العامة للأعلاف: أن ذلك كان نتيجة لاستخدام أصناف محسنة وذات إنتاجية عالية، وهذا الإنتاج حقيقة إذا اعتمدنا على هذه المقارنة فهو وفير جداً!
فهل كان ذلك فقط نتيجة لاستخدام أصناف محسنة، كما صرح مدير المؤسسة العامة للأعلاف؟
من المؤكد، أن ذلك كان أحد الأسباب التي أدت إلى زيادة الإنتاجية، ولكن هناك عدة أسباب أكثر مباشرة وأهمية، أدت إلى هذا الكم الوفير من الإنتاج مقارنة مع السنوات السابقة...
إقبال مرتبط بمصلحة المزارع المباشرة
للمزارع حسابات يقوم بها عند زراعة موسم ما، فإذا لم يجنِ منه ما يسد تكاليف إنتاجه، بالإضافة لهامش ربح مرضٍ له، فإنه من المؤكد سيستبدله بنوعية أخرى أكثر إنتاجية، وأقل كلفة وأكثر ربحية، وهذا منطقي فهو بنهاية المطاف كما غيره من المواطنين لديه مسؤوليات وواجبات يقوم بها اتجاه أسرته، خصوصاً في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة الكبير...
فزيادة مساحة الأراضي المزروعة بالذرة الصفراء في كافة محافظات زراعتها لهذا العام كان ملحوظاً، بل وفاقت الخطة المقررة من قبل وزارة الزراعة، ولهذا الإقبال الكبير من قبل المزارعين أسباب عدة.
فكما ذكرنا أعلاه فإن حسابات المزارع للموسم (الريع الذي يغطي تكاليف المعيشة) هو أحد الأسباب الرئيسية للإقبال، أو الإقلاع عن زراعة محصول ما من المحاصيل، فتتم دراسة الدورة الإنتاجية للموسم بدءاً من كمية استهلاكه من المبيدات والسماد بالإضافة لكمية المحروقات اللازمة لعملية السقاية، والمدة الزمنية اللازمة لاسترجاع تكاليف إنتاجه وجني محصوله.
فهذا بات ضروري جداً مع ما فرضه الواقع الزراعي المزري على الفلاح، والمرتبط بشح الدعم الحكومي على الزراعة، الذي اقترب من انعدامه، وتحمل المزارع تكاليف تأمين كافة مستلزمات الإنتاج عبر السوق السوداء، كبديل اضطراري لاستمرار عملية الزراعة، وبكلف خيالية، وأضف إلى ذلك العوامل المناخية القاسية، كالجفاف وقلة الأمطار وانخفاض نسبة مياه الأنهار والآبار التي يعتمد عليها المزارع للسقاية...
كل تلك الأسباب مجتمعة دفعت بالمزارع إلى زيادة الإقبال على زراعة الذرة الصفراء، وعلى حساب مساحات لزراعات أخرى ربما!
فالذرة تعود بأرباح أفضل من بعض المواسم، كالقمح والقطن، مقارنة مع كلف الإنتاج للأنواع المذكورة، من حيث استهلاكها للسماد والمحروقات، ولكونها لا تحتاج إلى كميات سقاية كبيرة، والأهم من ذلك، سرعة إنتاجها، حيث يمكن جني المحصول عدة مرات وخلال فترة زراعتها المحددة بـ 3 أشهر...
كما أن ارتفاع أسعار الذرة الصفراء، باعتباره من المحاصيل العلفية التي زاد الطلب عليها، بات أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت المزارع يقبل على هذا النوع من الزراعة، فهو أكثر ربحاً من غيره من المحاصيل، بالإضافة إلى تأمين حاجته الخاصة منه، وخاصة كأعلاف لماشيته، في ظل الارتفاع الكبير بأسعار الأعلاف، والمتزامن مع ندرة المراعي المرتبط بعوامل الطبيعة...
أما الأهم من كل ذلك، فهي الحرية النسبية للمزارع بالتصرف بإنتاجه، فلا سعر رسمي مركزي مفروض عليه عنوة بعيداً عن التكاليف الفعلية لإنتاجه، ولا إلزام بتسليم محصوله إلى مؤسسة الأعلاف وفقاً لهذا السعر.
كل تلك الأسباب أدت بجوهرها إلى هذا الإنتاج الوفير، رغم تقلص الدعم الحكومي للزراعة، وبعيداً عن تغني الوزارة بتنفيذ خططها الزراعية!
منغصات لا بد منها!
كما اعتاد المزارع بمواسمه المختلفة، فحلقة الإنتاج بسيرورتها لا بد أن تضر بصالحه على طول الخط، وفقاً للوقائع، حيث لا بد من وجود منغصات ومعيقات مبتكرة، بشكل أو بآخر، بالقدر الذي يخدم مصالح طبقة الفساد والنهب...
فقد تم تحديد سعر شراء كيلو الذرة الصفراء المجففة حصراً من قبل المؤسسة العامة للأعلاف بمبلغ 1800 ليرة، بالإضافة لدعم قدرة 200 ليرة، وبهذا يكون سعر الكيلو محدد بـ 2000 ليرة، أي أن سعر الطن الواحد 2 مليون ليرة، وبهذا الخصوص تم تحديد مواصفات محددة لشراء الذرة ووفقاً لبعض الشروط، من حيث درجة الرطوبة وما يرافقها من حسم على السعر أو الرفض، والوزن النوعي الذي يحدد القبول أو تخفيض السعر أو الرفض، ونسبة الشوائب والأجرام وما يرافقها أيضاً من حسم على السعر!
أما الشرط الأساسي لاستلام الذرة على أن تكون مجففة حصراً، فقد كان أحد الشروط التعجيزية للمزارعين، نظراً لقلة المجففات المتوفرة في المحافظات، ولتحملهم تكاليف نقلها، والوقت الضائع للانتظار أمام مراكز التجفيف، بحال كان هناك إمكانية متاحة لهذه الرفاهية!
فغالبية المزارعين لجأوا إلى طرق التجفيف التقليدية، كنشرها على الأسطحة وفي البيادر، والتي لا تخلو من المتاعب الكثيرة، خصوصاً أن فترة التجفيف هذه ترافقت مع هطولات مطرية والكميات المنتجة كبيرة، وهذا بدوره يقلل من نسب إمكانية استلامها وفق الشروط التي وضعتها المؤسسة، وهذه الأخيرة تؤكد حسن نيتها واستعدادها لاستلام كامل الكميات لهذا الموسم، ولكن شريطة أن تحقق المواصفات الموضوعة...!
وكأن السعر والمواصفة والشروط تم وضعها للضغط على المزارع بما يحقق مصالح التجار، بعيداً عن مصالح المزارع ومصلحة مؤسسة الأعلاف معاً!
فتلك الشروط التعجيزية دفعت المزارع إلى بيع ما يفيض عن حاجته للتجار بأسعار مخفضة عما وضعته المؤسسة من سعر، وفي نهاية الأمر لم يصل إلى مؤسسة الأعلاف سوى القليل من الكميات المنتجة، وبالتالي، لا بديل عن استمرار عمليات استيراد الأعلاف لتغطية الحاجة!
تعطيل لمصلحة الفساد!
لا شك أن هناك أهمية كبيرة لتنفيذ مشاريع إقامة المجففات وتوفيرها بالسرعة القصوى، فماذا يعني عدم إيجاد حل جذري وسريع لمشكلة عدم توفر مراكز تجفيف في المحافظات، وترك حل المشكلة عبر فتح باب الاستثمار للقطاع الخاص، مع تقديم الكثير من التسهيلات له، والتي وصلت بآخر ما حرر إلى تقديم الأرض للمستثمر المحظي!
فمع علم الجهات المعنية بتفاقم المشكلة، يتم التمسك بشرط استلام الذرة من المزارعين مجففة حصراً، عوضاً عن استلامها وتجفيفها من قبل الجهات المعنية!
فدعم محصول الذرة الصفراء، وتوفير كافة السبل لإنجاحه، وخاصة بعد أن ثبت بالدليل القاطع، أن إنتاجه يمكن أن يكون وفيراً، يوفر على خزينة الدولة مليارات الليرات سنوياً، نظراً لارتفاع فاتورة استيراد المواد العلفية، مما يحدّ من استنزاف القطع الأجنبي!
ليس ذلك فحسب، بل وما سيوفره المحصول، في حال تم تقديم الدعم الحقيقي، من الناحيتين الغذائية والصناعية، فاستخداماته عديدة ومتنوعة.
فالذرة تستخدم كدقيق يدخل في صناعة الخبز والحلويات، بالإضافة لأهميته في استخراج زيت الذرة، وما سيوفره للاستهلاك المحلي بديلاً عن استيراد زيت الذرة بكلفه المرتفعة، ناهيك عن استخدام دقيق الذرة في صناعة النشاء والكحول والمُحليات الصناعية، بالإضافة إلى صناعة الصمغ، والبلاستيك والورق... أي ما يمكن أن يحققه المحصول من قيمة مضافة من خلال تصنيعه، مع ما يؤمنه ذلك من تشغيل أيدٍ عاملة إضافية..
ولعل استمرار تعطيل إقامة المجففات، مع وضع شروط تعجيزية لاستلام المحصول، ليست سوى محاولة لوضع المزارع تحت ضغط الأمر الواقع لاستنزافه، ودفعه للإقلاع عن زراعة هذا المحصول، كما غيره من المحاصيل، وكل ذلك في سبيل استمرار عمليات الاستيراد التي تخدم مصالح القائمين على إدارة غرفة عمليات الاستيراد والتصدير وسماسرتها، ومع استمرار الوضع على ما هو عليه من تردٍ واستنزاف!
فهل سيعاود المزارع الكرة مرة أخرى بهذا المحصول، أم أن الموسم الحالي سيكون عبرة وعظة للمواسم القادمة؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1098