المشتقات النفطية ووقف حال البلاد والعباد!
لم تنشأ السوق السوداء على المشتقات النفطية، وصولاً إلى انفلات هذه السوق وتشعب شبكاتها، مع مقدرتها على تأمين أية كميات منها، إلا من خلال الندرة فيها عبر القنوات الرسمية كسبب رئيسي، يضاف إليها ضعف آليات الرقابة والمتابعة، مع تفشي عوامل الفساد طبعاً!
أما أن يتم تحميل أوزار نشوء السوق السوداء بنتيجة ما سبق، على المواطنين أنفسهم، فهذا هو آخر الإبداعات الرسمية، ليس لتكريس التهرب من المسؤولية عن ذلك فقط، بل لتأبيد الوضع القائم، سواء على مستوى استمرار الندرة، أو على مستوى استمرار نشاط عمل هذه السوق بشبكاتها وأسعارها!
إمعاناً في التهرب من المسؤولية وتجييرها!
فقد صدر عن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بتاريخ 1/12/2022 تحذيراً يقول: «كل منشأة أو فعالية تستجر مشتقات نفطية من السوق السوداء ولا تبلغ وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك عن البائع تعتبر شريكاً في الاتجار غير المشروع بالمشتقات النفطية ويطبق عليها المرسوم التشريعي رقم ٨ للعام ٢٠٢١».
التحذير أعلاه، وبغض النظر عن مدى مطابقة مواد المرسوم على ما تم اعتباره مخالفة تستوجب عقوبة الشراكة في جرم الاتجار غير المشروع بالمشتقات النفطية، قد يساهم مؤقتاً في الحد من نشاط السوق السوداء بشكل جزئي ومحدود فقط، لكنه بالمقابل سيؤدي حتماً إلى عرقلة عمل ما تبقى من المنشآت والفعاليات، إن لم يؤدِّ إلى وقف نشاطها كلياً!
فمن المفروغ منه أن من يلجأ إلى السوق السوداء للمشتقات النفطية، بأسعارها الكاوية، لتأمين احتياجات منشأته وعمله منها، ما كان ليضطر إلى ذلك لو أن مخصصاته عبر القنوات الرسمية كانت كافية منها أصلاً!
فهؤلاء المضطرون ليسوا هواة زيادة التكاليف والأعباء على أنفسهم، ولا متبرعين طوعاً لشبكات هذه السوق، كي يتحملوا العقاب مع القائمين عليها والمنتفعين منها (بحال طالت هؤلاء أية عقوبات طبعاً)، بالإضافة إلى العقاب الأصلي المتمثل بعدم كفاية مخصصاتهم رسمياً!
فالمضمون التنفيذي للتحذير أعلاه هو وقف حال المنشآت والفعاليات المستمرة بعملها أصلاً من خلال الاعتماد اضطراراً على ما تؤمنه السوق السوداء من مشتقات نفطية ضرورية لاستمرار عملها، أو اعتبار أصحابها شركاء بجريمة لم يقترفوها!
وعلى مستوى عمل شبكات السوق السوداء فقد كان هذا التحذير بمثابة الهدية المجانية لها، فقد ارتفعت أسعارها الاستغلالية بشكل كبير بعده!
استدراك قانوني في غير مكانه!
استفاقت الوزارة على يبدو على موضوع عدم انطباق مواد قانون حماية المستهلك على ما اعتبرته مخالفة بحسب مضمون تحذيرها أعلاه، مع إصراراها على موضوعة تجريم المعنيين المستهدفين بمتنه «المنشآت والفعاليات»، هكذا..
فقد استدركت الوزارة بأحد توضيحاتها عن الموضوع بتاريخ 3/12/2022 مستعينة بقانون العقوبات هذه المرة، حيث أوردت التالي: «نصت الفقرة ١ من المادة ٢٢٠ من قانون العقوبات في الجمهورية العربية السورية على ما يلي: «من أقدم في ما خلا الحالة المنصوص عليها في المادة ١٨ وهو عالم بالأمر على إخفاء أو بيع أو شراء أو تصريف الأشياء الداخلة في ملكية الغير والتي نزعت أو اختلست أو حصل عليها بجناية أو جنحة، عوقب بالحبس من ٣ أشهر إلى سنتين وبالغرامة من ١٠٠ ليرة إلى ٢٠٠ ليرة، أي إن من يشتري مازوت أو بنزين من السوق السوداء السوري تحديداً (لأن موضوع التهريب موضوع آخر يعالجه قانون الجمارك)، فهو يخالف قانون العقوبات والمرسوم التشريعي رقم ٨ عام ٢٠٢١، وبالتالي فإن كل ما ينشر ويكتب حول تبرير الشراء من السوق السوداء هو في حقيقته يخالف القانونَين المذكورَين».
وبغض النظر عن تأويلات الوزارة وتفسيرها الخاص لمضمون الفقرة ١ من المادة ٢٢٠ من قانون العقوبات، من خلال ما ورد بعد مفردة «أي» التفسيرية أعلاه، فإن موضوع توصيف المخالفة، مع ما تستوجبها من عقوبات، يبقى من اختصاص القضاء وبعهدته أولاً وآخراً.
ولا ندري إن كان من صلاحيات الوزارة مصادرة حق القضاء مسبقاً في تفسير النصوص القانونية وتأويلها بحسب توضيحها؟!
حرب مفتعلة لتبرير ما لا يبرر!
عقب التحذير الرسمي أعلاه، وبعد الكثير من الاستهجان لتداعياته ونتائجه السلبية المتوقعة على المنشآت والفعاليات، أوردت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك توضيحات متتالية حياله، من ضمنها التأكيد على أن موجودات السوق السوداء من المشتقات النفطية «مسروقة بالمطلق»، مع تبرير توقف التوريدات بأنه «ناتج عن ظروف الأصدقاء الذين يزودون سورية بالمشتقات النفطية»، وبأن «كل من يهاجم ضبط السوق السوداء، فهو يشرعن السرقة ويحرم المواطنين من حصصهم بالمشتقات النفطية، والتأكيد على أن الأجدى «صبّ جام الغضب على الدول التي تفرض العقوبات على سوريّة وعلى لصوص النفط».
بمعنى أكثر وضوحاً لا علاقة للحكومة بوزاراتها وجهاتها المعنية بأية مسؤولية، لا عن انفلات السوق السوداء طيلة السنوات الماضية وحتى الآن، ولا عن نقص التوريدات، ولا عن عدم كفاية المخصصات!
واللافت أن الوزارة جيرت كل الأزمة بنتائجها الكارثية على شكل حرب مستعرة على من يفند تحذيرها بنتائجه وعواقبه الاقتصادية السلبية على المنشآت والفعاليات التي تضطر للجوء إلى السوق السوداء، وكأنهم مدافعون عن السرقة وعن هذه السوق..!
ففي أحد توضيحاتها ورد التالي: «ومهما تعالت الأصوات المدافعة عن السرقة، فلن تتوقف الوزارة عن أداء واجبها وسعيها لتحقيق العدالة في التوزيع لمجموع الشعب».
والسؤال المطروح، بمعزل عن الحرب المفتعلة أعلاه، أين هي الوزارة والحكومة من مسؤولياتها وواجباتها ودورها حيال تأمين الكميات الكافية للحاجات الفعلية من المشتقات النفطية؟!
فكل ما ورد سابقاً وحالياً عن الأمر لا يعدو كونه تكراراً للذرائع والمبررات، مع تجيير للمسؤولية والتهرب منها كيفما اتفق!
مع الأخذ بعين الاعتبار أن المشتقات النفطية محصور توريدها وتوزيعها وبيعها بوزارة النفط وشركة محروقات، وتم الاعتماد على الذكاء افتراضاً من أجل حسن متابعة هذه العمليات!
فالسرقة التي تزود السوق السوداء بكمياتها هي بمسؤولية وعهدة القائمين على هذا الذكاء، وعلى شبكات الرقابة الرسمية!
ومن يشرعن السرقة أو السوق السوداء هي بداية تلك الإجراءات التي أدت إلى نقص الكميات عبر القنوات الرسمية، وتالياً إلى نقص التوريدات أو التأخر بها، يضاف إليها عوامل الفساد بعمليات الرقابة أخيراً!
أزمة مستمرة دون حلول جدية!
إن أزمة المشتقات النفطية (مازوت- غاز- بنزين- فيول) قديمة ومستمرة، وتزداد تفاقماً وتعمقاً يوماً بعد آخر، مع كل الانعكاسات الكارثية لذلك على المستويات التالية:
عمل محطات توليد الطاقة الكهربائية.
الإنتاج الزراعي والصناعي والحرفي.
الفعاليات التجارية والخدمية.
حركة النقل والمواصلات.
احتياجات المواطنين.
مجمل الواقع الاقتصادي في البلاد كمحصلة.
فالأزمة المستمرة والمتفاقمة، وعلى الرغم من الاعتراف الرسمي (الخجول والموارب) بها، إلا أنها كانت مرتبطة دائماً بذرائع التوريدات (عدم كفايتها- تأخرها المستمر، بل والمفاجئ للرسميين في الكثير من الأحيان) مع ذرائع العقوبات والحصار، وتداعيات الحرب والأزمة، طبعاً.
أما الحلول المبتدعة والترقيعية على مستوى إدارة الأزمة رسمياً فقد كانت قاصرة على التالي:
اعتماد سقوف مخصصات من المشتقات النفطية لكل قطاع حسب نوع احتياجاته منها، دون كفايتها طبعاً، بما في ذلك احتياجات المواطنين.
استمرار تخفيض الدعم على المشتقات النفطية (كماً وسعراً ومواعيد توزيع للمخصصات).
الترويج والتشجيع على توسيع وزيادة استخدام بدائل مصادر الطاقة بتنوعها.
اعتماد الذكاء في توزيع المخصصات.
والنتيجة المباشرة لكل ذلك تمثلت بزيادة تراجع عمل كافة القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية، مع زيادة نشاط السوق السوداء على كافة المشتقات النفطية.
ليأتي التحذير الرسمي الأخير أعلاه، مع الإصرار على تكييف توصيف وتجريم المخالفة بحسب مضمون «أي» التفسيرية السابقة، وكأنه إسفين جديد في نعش ما تبقى من منشآت وفعاليات اقتصادية عاملة في البلاد (صناعة وزراعة وخدمات ونقل و.. بل ومطاعم شعبية ربما)!
رصيد جديد في خانة السياسات التدميرية!
إن كل ما سبق بما يخص أزمة المشتقات النفطية وإدارتها، وصولاً إلى مساعي وأد ما تبقى من منشآت وفعاليات قائمة ومستمرة حتى الآن، برغم كل الضغوطات عليها، لا يخرج عن النهج التدميري القائم والمستمر لكل ما هو منتج وعامل في البلاد من فعاليات، تماشياً مع جملة السياسات التدميرية المسخرة لخدمة نفس الغاية بالمحصلة، وتنفيذاً دقيقاً لها، على حساب الإنتاج والخدمات والمعيشة والاقتصاد الوطني، وبما يصب بمصلحة كبار حيتان النهب والفساد فقط لا غير، بما في ذلك القائمون على السوق السوداء، وكل التجارات غير المشروعة!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1099