لعنة الموت تلاحقُ السوريين... هل من خلاص؟
رند الحسين رند الحسين

لعنة الموت تلاحقُ السوريين... هل من خلاص؟

يشقّ الموت طريقه إلى شعب هذه البلاد بشتّى الطرق، فلم تكتفِ سنوات الحرب والأزمة بقتل السوريين بسبب المعارك وفي البيوت وفي المعتقلات، وبسبب التشرد والبرد والجوع والفقر والمرض، بل واصلت عملها لتبتكر أشكالاً جديدة وفريدة دائماً.

وكأن الموت هنا قد تحول من اسمٍ يوحي بالسكون والثبات، إلى فعلٍ مضارعٍ مستمرٍ بالتهام السوريين... ما دامت مسبّباته مستمرة.
يقول أحد المواطنين مردّداً بيت شعر لمحمود درويش: «كلّ الذين ماتوا نجوا من الحياة بأعجوبة».. إذ إن شبه الحياة في البلاد اليوم باتت هي الأخرى شكلاً من أشكال الموت البطيء.. الأصعب والأخطر.
فقد كثرت حوادث الموت خلال الأسابيع القليلة الماضية، حتى بات بالكاد يخلو يوم من خبر وفاة أحدٍ هنا أو هناك بحادثة مؤلمة ما!

«أنتم الناجون... ونحن الغرقى!»

هذا ما قاله أحد المواطنين تعقيباً على كارثة غرق الزورق الأخيرة، والتي كانت بمثابة فاجعة عظمى للسوريين بما تحمله من معانٍ متعددة، حيثُ لقي حوالي 94 شخصاً –في حصيلة غير نهائية- مصرعهم غرقاً أثناء ركوبهم قارباً يقلّ مهاجرين «غير شرعيين» سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، وجدوا بالقرب من السواحل السورية، كما تم إنقاذ حوالي 20 آخرين يتلقّون العلاج الآن في مشفى الباسل في طرطوس، وفق تصريحات وزير الصحة.
لم تكن حادثة الغرق هذه هي الأولى من نوعها، فقد عايش السوريون حوادث غرق كارثية مشابهة في مواسم اللجوء خلال سني الحرب والأزمة الطويلة والمستمرة، بالإضافة إلى حوادث التيه في الغابات الأوربية، والموت برداً وتجمداً فيها، والموت اختناقاً في شاحنات التهريب بين الدول!
فالسوريون الذين خانتهم ظروف بلادهم الكارثية، خانهم البحر أيضاً.. وابتلعهم، والخيانة الكبرى كانت من مكرسي هذه الظروف الكارثية، والمستفيدين منها، بمختلف تلاوينهم ومواقعهم، داخلاً وخارجاً!

حوادث أخرى

من ضمن الكوارث التي حدثت خلال الفترة القريبة الماضية أيضاً، كانت حادثة وفاة شابّ أثناء محاولة صعوده باص نقلٍ داخليّ مكتظ.
الشاب المتأخر عن عمله، لم يجد في ظلّ أزمة المواصلات خياراً بديلاً عن التشبّث بالباب الخارجي، فأجارات التكاسي اليوم تبدو فوق احتمال جيب أي مواطن. فسقط الشابّ ولقى حتفه في مشهدٍ مأساوي يعكس جزءاً من معاناة السوريين اليومية.
وفي حادثة أخرى لا تقلّ قساوةً سقط أربع شبّان منذ عدّة أيام في ريغار للصرف الصحّي، فارق 3 منهم الحياة بينما ما زال الرابع قيد العلاج، وقد حمّل رئيس البلدية الشبان الأربعة المسؤولية في السقوط قائلاً إنهم كانوا يحاولون أخذ مياه للريّ من الصرف الصحي وأنّ المنطقة محاطة بالدوريات حرصاً على سلامة السكان من السقوط، دون أن يوضح سبب غياب الدوريات هذه أثناء سقوط الشبّان.
حادثة مؤلمة أخرى حدثت في منطقة سبينة في ريف دمشق، حيث توفّي عامل بلدية اختناقاً في مجرىً للصرف الصحي بعد أن كلّف مع والده بتنظيف الريغار. حيث استنشق روائح سامّة وشرب منها، وعندما نزل الوالد لإنقاذه غاب عن الوعي هو الآخر وما زال في العناية المشدّدة حتى الآن. الجدير بالذكر هنا والمثير للاستغراب أنّ البلدية لم تزوّد موظفيها بألبسة واقية حفاظاً على حياتهم من الأبخرة السامة، بحجة عدم امتلاكها لهذا النوع من الألبسة!

الأخطاء الطبية تحصدنا أيضاً!

لم ينجُ القطاع الطبي من حوادث الموت الكارثية، فبعد وفاة شابّ بعمر الـ22 في مشفى الغزالي إثر صدمة تحسسية ناتجة عن إعطاء إبرة «سفترياكسون» وإغلاق المشفى بالشمع الأحمر نتيجةً لذلك، توفي شابّ بعمر الـ18 عاماً منذ عدة أيام بعد مراجعته مشفى تشرين في جبلة بحالة التهاب سحايا، وذلك بعد تعرّضه لصدمة تحسسية أيضاً، علماً أنه في التقرير المرضي للمريض كان قد ذُكر أنّ لديه تاريخ تحسّس على مادة «السفترياكسون»!
وخلال الشهر الماضي أيضاً توفّيت شابة بعد قبولها في مشفى خاص في منطقة مصياف لإجراء عملية انحراف وتيرة في الأنف والتي تعدّ من العمليات السهلة نسبيّاً، ولكنّ خطأً طبياً في التخدير أدّى إلى توقف قلب مفاجئ ونقص في أكسجة الدماغ ما أودى بحياتها.
هذه الحوادث الطبية المؤسفة وغيرها تأتي كنتيجة مباشرة لهجرة الأطباء الأكفاء من البلاد، إضافةً إلى تردّي الخدمات في المشافي العامة والخاصّة على حدّ سواء، وبالنهاية «ما بتروح غير على هالمواطن المعتّر»!

حلول إسعافية لإنقاذ من تبقى

جملة الكوارث السابقة هي غيضٌ من فيض من حوادث يومية مكرّرة يموت فيها السوريون أفراداً ومجموعات كضحايا لأزمات عديدة ومتشعبة لم يفتعلوها، بل فُرضت عليهم، كمسببات ونتائج ومآلات، ولا يغيب عن السرد حوادث الانتحار المسجلة أيضاً، لشبان وشابات ورجال ونساء، كشكل من أشكال الهروب بلحظة ضعف من الضغوط المعاشة وغير المحمولة!
فالسوريون الغرقى في مشكلاتهم اليومية، من فقرٍ وتشرد وانعدام الأمان والافتقار لأبسط مقوّمات الحياة، وصولاً إلى حال انسداد الأفق أمامهم، باتوا بمعظمهم يسعون إلى الهرب بشتّى الطرق الممكنة من هذا الواقع القاسي بكل المعايير نحو حياة أقل جوراً وقسوة، ولا سيّما في السنوات الأخيرة، حيث باتت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة تشدُ وثاقها بعنفٍ على عنق السوريين فتخنقهم...
والموت الذي يجد طريقه إلى السوريين، بمختلف التسميات والمسببات، يضاف إليه موت إضافي لا يقل قسوة، يتمثل بأشكال التخلي عنهم واللامسؤولية تجاههم، بل مع تحميلهم الأوزار منفردين، مزاودة على مآسيهم وكارثتهم، واستثماراً بها!
موتٌ غير مباشر، ومعاناةٌ لحظية تكثّفه حوادث الموت المباشر، وتنذر بضرورة الإسراع إلى الحلول الإسعافية الحقيقية لتؤرض وتخصي أولئك الذين يطلقون لعنات الموت علينا، ويتسبّبون بموتنا المباشر وغير المباشر، عسى تنقذ من تبقّى على المركب قبل أن يغرقوا أكثر!
وهذه الحلول متاحة وليست عصية أو مستحيلة كما يسوق البعض المستفيد والساعي إلى تأبيد هذا الواقع الكارثي، وتتمثل بداية بالبدء بالحل السياسي كبوابة مشرعة لفتح الأفق أمام السوريين مجدداً، وصولاً إلى التغيير الجذري والعميق والشامل، الذي يستعيد وحدة البلاد، ويضمن ليس بقاء من تبقى فيها، بل ويعيد استقطاب من غادر منها هرباً نحو حياة أفضل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1089