من حبس الليرة إلى انفلاتها.. نحو المزيد من الإفقار العام

من حبس الليرة إلى انفلاتها.. نحو المزيد من الإفقار العام

بعد كل الإجراءات المالية والنقدية التي تم اتخاذها وتنفيذها رسمياً، وخاصة خلال السنتين الماضيتين، والتي تتلخص كهدف بحبس الليرة ومنع المضاربة بها، والحد من تداول السيولة النقدية ما أمكن، وبغض النظر عن مدى دقتها وصوابيتها، فقد كان من أحد نتائجها تضخم الكتلة النقدية في المصارف، العامة والخاصة، وصولاً إلى فائض سيولة كبير غير مستثمر عملياً، فقد بدأت آليات الإفراج عن فائض السيولة المصرفية تلك، من خلال مجموعة من القرارات المالية والنقدية المتلاحقة، التي فسحت المجال أمام المصارف (العامة والخاصة) لتفتح بوابات الإقراض على وسعها، مع فتح السقوف لبعضها، ورفعها لبعضها الآخر.

فهل حققت الإجراءات المالية والنقدية غايتها وأهدافها المعلنة وصولاً لحال الاستقرار المالي والنقدي، وخاصة على مستوى الحفاظ على القيمة الشرائية لليرة، كي يتم اتخاذ قرارات الإفراج عن السيولة النقدية الفائضة والمعدة للإقراض بهذا الشكل؟

قرارات المصرف المركزي

لقد صدر عن مجلس النقد والتسليف القرار رقم 433/م. ن تاريخ 30/12/2021 المتضمن السماح للمصارف العاملة بمنح التسهيلات الائتمانية على شكل (قروض/ تمويلات) لتمويل المشاريع الصناعية وفق القائمة المرفقة بالقرار المذكور، إضافة إلى مشاريع إنتاج الطاقة المتجددة، ودون التقيد بسقوف الإقراض المحددة بموجب التعميم رقم 4774/16/ص لعام 2020 الصادر وفق توصية اللجنة الاقتصادية رقم 35 لعام 2020، وقد سبق لقاسيون أن أفردت مادة خاصة بهذا القرار عند صدوره، تحت عنوان: «الكرم الحاتمي للمصرف المركزي لمصلحة مَن؟».
وكذلك صدر القرار رقم 434/م. ن تاريخ 30/12/2021 المتضمن استثناء المصرف الصناعي من أحكام المادة 6 من القرار 433/م. ن فيما يتعلق بالحدود القصوى لكتلة التسهيلات الممنوحة من محفظة التسهيلات الائتمانية المنتجة لدى المصرف، بما ينسجم مع طبيعة المصرف المذكور الموجهة بشكل أساسي للقطاع الصناعي، وباعتبار محفظته الائتمانية تقوم أساساً على تمويل ودعم هذا النوع من المشاريع، وحسب الشروط والسياسات والإجراءات المتبعة لديه.
وبحسب بيان صادر عن المصرف المركزي بتاريخ 31/1/2022، وتم نشره على صفحته الرسمية، «أصبح متاحاً للمصارف تمويل المشاريع الصناعية بما فيها مشاريع الطاقات المتجددة من المصارف اعتباراً من تاريخ تبليغ القرار 433/م. ن وفق الضوابط والشروط والأحكام المبينة ضمنه والمتبعة لدى المصارف، وصولاً إلى تحقيق الأهداف المرجوة في دعم المشاريع الصناعية في المرحلة الحالية والمقبلة وانعكاس أدائها على الاقتصاد الوطني».

قرارات خاصة بالمصارف العامة

أعلن مصرف التوفير، بتاريخ 31/1/2022، عن حزمة قرارات جديدة تم بموجبها رفع سقف القروض، وتخفيض عدد الكفالات وتعديل طريقة احتساب الفائدة، وتسهيل فتح الحسابات المصرفية، أبرزها: رفع سقف القروض الممنوحة لذوي الدخل المحدود مدنيين وعسكريين إلى 5 ملايين ليرة سورية بدلاً من مليوني ليرة، كذلك تم أيضاً تعديل سقف قروض المتقاعدين ليصبح مليونين ونصف المليون ليرة سورية بعدما كان مليون ليرة.
وأصدر المصرف التجاري السوري، بنفس التاريخ 31/1/2022، التعليمات التنفيذية للقرض الذي يمنحه لشراء عقار سكني أو تجاري «جاهز أو على الهيكل» بحدّ أقصى 100 مليون ليرة سورية، والتي تضمنت مجموعة من الاشتراطات، مع تحديد لنسب الفائدة على القرض، وغيرها من الضوابط الأخرى.
كذلك أصدر المصرف التجاري السوري، بتاريخ 1/2/2022، قراراً يقضي برفع سقف القرض الشخصي إلى 25 مليون ليرة سورية بضمانة عقارية، بدلاً من 20 مليون ليرة، وإلى 10 ملايين ليرة بضمانة رواتب كفلاء موظفين، بدلاً من 5 ملايين ليرة.
أما ما يتعلق بالمصرف العقاري، فقد نقل عن مدير المصرف العقاري بتاريخ 3/2/2022، أن: «المصرف يقوم حالياً بدراسة واقع السحوبات وحركة الإقراض ليقرر في ضوء ذلك رفع السقوف من عدمه».
وفي تصريح سابق لمدير المصرف بتاريخ 20/1/2022، قال: «إن ودائع المصرف خلال العام الماضي تجاوزت 669 مليار ليرة، وبينما بلغت نسبة قروض الترميم من القروض الممنوحة من قبل المصرف لعام 2021 البالغ عددها 3808 بمجموع 22,9 مليار ليرة سورية، بنسبة 44%»، مضيفاً: «أن ترميم رأسمال المصرف العقاري حتى 16 مليار ليرة بعد خسائر متراكمة على مدى عدد من السنوات الماضية سمح للمصرف برفع قيمة الإقراض للعميل الواحد حتى ثلاثة مليارات ليرة، إذ كانت قدرة المصرف على إقراض العميل الواحد لا تتجاوز أكثر من 600 مليون ليرة».

نحو المزيد من الإفقار

من المفروغ منه، أن جملة القرارات أعلاه ستؤدي إلى ضخ المزيد من السيولة النقدية في الأسواق المحلية، تتمثل بفائض السيولة المتوفرة في المصارف والمتاحة للإفراض، وهي كتلة نقدية كبيرة لا شك.
لكن ما هي الانعكاسات المتوقعة بنتيجة البدء بتنفيذ عمليات الإقراض بحسب مضامين هذه القرارات؟
بحسب الاختصاصيين، وبكل اختصار، فإنه من المفترض أن ضخ العملة في الأسواق يتم عادة بما يتناسب مع حقيقة الإنتاج بشكل رئيسي، وهذا يعتبر أحد الأدوار المناطة بالسياسات المالية والنقدية.
فعند اختلال هذا التوازن والتناسب ترتفع معدلات التضخم، وتنخفض القيمة الشرائية للعملة، أي يتضرر بالنتيجة عموم المواطنين، كما يتضرر خاصة كل ما يتعلق بالتعاملات الآجلة.
فأية هزة بقيمة العملة تنعكس سلباً على أسعار السلع عموماً، وعلى قيم البيوع الآجلة، وعلى سداد القروض، وكذلك على تحديد قيم وأسعار الخدمات.
الواقع يقول سلفاً: إن القطاع الإنتاجي (الصناعي والزراعي والحرفي)، والذي يُعول عليه بشكل رئيسي ليخلق التناسب المطلوب بين حجم الإنتاج الحقيقي والكتلة النقدية الواجب توفرها للتداول، هو في أسوا حالاته، ولا تتوفر النية الحقيقية لإخراجه من أزماته، وبالتالي، فإن ضخ المزيد من السيولة النقدية بظل هذا الواقع من التردي في القطاعات الإنتاجية لن تكون نتيجته إلا مزيداً من التضخم، ومزيداً من تراجع قيمة الليرة الشرائية، أي مزيداً من الإفقار لعموم المواطنين.

المستفيدون الكبار

تجدر الإشارة إلى أن كل ذلك يصب طبعاً على شكل مزيد من الأرباح في جيوب كبار المتحكمين بهذه السيولة النقدية في الأسواق، وخاصة المضاربين بالعملات الأجنبية، والناشطين في التجارات غير المشروعة، بما في ذلك تلك العابرة للحدود، وليس شرطاً أن يكون هؤلاء الكبار من المقترضين طبعاً، لكنهم هم أنفسهم كبار حيتان الثروة والفساد في البلد، التي تعمل السياسات لمصلحتهم.
على جانب آخر، فإن المقترضين، وخاصة الكبار منهم، سيستفيدون من تراجع القيمة الشرائية لليرة عند تسديدهم لتلك القروض، بحال سددوها طبعاً، سواء كانت على شكل أقساط شهرية أو على شكل دفعات مستحقة بهوامش زمنية معينة، وسيكون الخاسر في هذه الحالة هي المصارف المُقرضة أيضاً (عامة أو خاصة).
بمطلق الأحوال، وعلى ضوء القرارات أعلاه، وكنتيجة لجملة السياسات المتبعة الميؤوس منها في أن تكون في مصلحة الإنتاج والمنتجين الحقيقيين والمستهلكين على السواء، يبدو أننا مقبلون على تهاوٍ جديد في قيمة الليرة الشرائية، وسنمضي قدماً نحو المزيد من التضخم، أي مزيد من التردي المعيشي والخدمي، والمزيد من الإفقار العام.
فمصالح حيتان المال والفساد أهم وأولى وفقاً للسياسات الحكومية المتبعة من كل المصالح الأخرى، بما في ذلك المصلحة الوطنية.

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1056
آخر تعديل على الجمعة, 11 آذار/مارس 2022 13:13