مزيد من كم الأفواه والتعدي على الحرّيات
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

مزيد من كم الأفواه والتعدي على الحرّيات

تداولت بعض المواقع الإلكترونية، وبعض صفحات التواصل الاجتماعي، خلال الأسبوع الماضي، ما تمت تسميته «محددات النشر الإلكتروني للعاملين في الدولة»، ناسبة وضع تلك المحددات إلى وزارة الإعلام.

وقد تضمنت المحددات المتداولة بنوداً خاصة بالمواقع الإلكترونية الرسمية للجهات العامة، مع بعض الضوابط الخاصة بها، بالإضافة إلى بعض الضوابط الخاصة بالعاملين في الدولة، فيما يتعلق بصفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، مع بعض المحظورات.
ويسجل هنا عدم صدور أي نفي أو توضيح رسمي عن مضمون المحددات المتداولة حتى تاريخه.

جديد المحظورات

الضوابط، وخاصة ما يتعلق بالسماحيات والمحظورات، الخاصة بالإعلام وبالمواقع الإلكترونية، ليست جديدة، فبعضها ورد في مواد قانون الإعلام، وبعضها الآخر ورد في مواد قانون التّواصل على الشّبكة ومكافحة الجريمة المعلوماتيّة، بغض النظر عما يمكن إيراده من ملاحظات كثيرة على بعض مواد هذه القوانين، وخاصة ما يتعلق بالحريات الشخصية، والكيفية التي تطبق بها بعض النصوص القانونية في بعض الحالات.
أما الجديد بالمحددات المتداولة فهو ما ورد على شكل محظورات إضافية خاصة بالعاملين في الجهات العامة، حيث ورد ما يلي:
يحظر على العاملين في الجهات الحكومية نشر أية مواد إعلامية على صفحاتهم الشخصية تتعلق بمكان عملهم ما لم يتم نشرها على المواقع الإلكترونية لتلك الجهات.
يحظر على العاملين في الجهات العامة ذكر مكان عملهم في صفحاتهم الشخصية.

المحظورات بين التعميم والتخصيص

قد تكون المحظورات الجديدة أعلاه لها ما يبررها فيما يتعلق ببعض المواقع الوظيفية التي يشغلها الموظف الحكومي العام، لحساسيتها أو لضرورات أمنها، أو غيرها من المبررات التي تلزم شاغل هذا الموقع الوظيفي ببعض المحظورات فيما يتعلق بتعامله مع وسائل التواصل الاجتماعي، وما ينشره عبرها، وخاصة المواقع الوظيفية الرسمية العليا المعنية بإصدار القرارات والتوجيهات.
فربما من غير المقبول مثلاً أن يصدر قرار ما عن موقع وظيفي في جهة حكومية، وبنفس الوقت يكتب مُصدر هذا القرار ما يعارضه أو يخالفه على صفحته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، سواء قبل أو بعد إصدار القرار، وسبق أن تم تداول مثل هذه الملاحظات على بعض المسؤولين.
لكن تعميم هذه المحظورات على جميع شاغلي الوظيفة العامة، وبهذا الشكل، فهو يعتبر تعدياً على الحريات الشخصية المصانة دستورياً، والمنصوص عنها في الكثير من القوانين المعمول بها.

العاملون في الدولة قطط من خشب

المحددات الجديدة أعلاه لا يمكن اعتبارها إلا شكلاً جديداً لممارسة كم الأفواه ولمصادرة الحريات الشخصية، وهذه المرة موجهة لكافة العاملين في الجهات العامة، بغض النظر عن مواقعهم الوظيفية، وبغض النظر عن طبيعة كل موقع وظيفي.
فمع التأكيد على ضمان سلامة وأمن بعض المعلومات الخاصة بالجهات العامة، نظراً لطبيعتها أو زمنها أو مصدرها، إلّا أن عبارة «يحظر على العاملين في الجهات الحكومية نشر أية مواد إعلامية على صفحاتهم الشخصية تتعلق بمكان عملهم ما لم يتم نشرها على المواقع الإلكترونية لتلك الجهات»، هي عبارة فضفاضة (وما أكثر العبارات الفضفاضة الشبيهة في القوانين المعمول بها) يمكن تأويلها على أي «بوست» لأصحاب العلاقة من العاملين في الجهات الحكومية، فيه إشارة من قريب أو بعيد لمكان عملهم وطبيعته، كسيف مسلط بيد مالكي السلطات، أياً كان هؤلاء، يمكن من خلاله ممارسة المزيد من الضغوط على هؤلاء العاملين.
وكأن المطلوب من العاملين في الجهات الحكومية من الآن فصاعداً أن يصبحوا فعلاً (قططاً من خشب، تصطاد ولا تأكل)، خاصة في ظل تفشي واستفحال ظواهر النهب والفساد والمحسوبية والولاءات في الجهات العامة، ناهيك عن كل المعاناة التي يعيشها هؤلاء، وكل ما يفقدونه من حقوق تباعاً بسبب السياسات الليبرالية المجحفة المطبقة، اعتباراً من حقهم بالأجر الذي يجب أن يؤمن لهم المستوى المعيشي اللائق، مروراً بحقهم بالتعويضات والعلاوات، وغيرها من الحقوق المالية والصحية و..، وليس انتهاءً بحقهم في التعبير على ما يبدو!

غياب النفي يؤكد المضمون

الخبر المتداول عن المحددات المنسوبة لوزارة الإعلام ورد فيه أيضاً أنّ رئاسة مجلس الوزراء عممت مشروع بلاغ إلى الجهات العامة بخصوص هذه المحددات لوضع الملاحظات عليها.
بالمقابل لم تصدر وزارة الاعلام، أو رئاسة مجلس الوزراء، أي نفي لمضمونه حتى تاريخه، ولم يرد على مواقعها أو صفحاتها الرسمية أي تعليق توضيحي حوله، وهو ما درجت عليه العادة رسمياً بمثل هذه الحالات، حيث يتم تسريب الخبر كإشاعة في البداية، ثم «تقع الفاس بالراس» ويعمم رسمياً!
مع الإشارة إلى أنه بتاريخ 1/11/2021 وخلال لقاء لجنة الإعلام والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مجلس الشعب مع وزير الإعلام، بين الوزير: «أنه يتم العمل على بناء قانون إعلام جديد وتغطية المساحات التي لم يشملها القانون السابق ووضع مسار قانوني للتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي» وذكر أيضاً: «أن خطة الوزارة تقوم على سياسة إستراتيجية مبنية على الانتقال إلى إعلام الدولة والتركيز على الخطاب الإعلامي المتفائل المبني على منطق الحلول بعيداً عن توصيف المشاكل فقط..»، وذلك بحسب وكالة سانا.
كما تجدر الإشارة إلى أنه خلال الجلسة الأسبوعية للحكومة بتاريخ 26/10/2021، «ناقش مجلس الوزراء خطة وزارة الإعلام للارتقاء بالإعلام الوطني ليكون جسراً بين المواطن والمسؤول وتسليط الضوء بشكل موضوعي ومسؤول على أداء الجهات العامة وتعزيز مفهوم إعلام الدولة والتصدي للمفاهيم الدخيلة على المجتمع السوري وترسيخ مبدأ التشاركية بين الحكومة والمواطن».
ما ورد أعلاه رسمياً بما يخص «وضع مسار قانوني للتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي» أو «الإستراتيجية المبنية على الانتقال إلى إعلام الدولة»، أو «تسليط الضوء بشكل موضوعي ومسؤول على أداء الجهات العامة»، بالتوازي مع الحديث عن قانون إعلام جديد، ومع عدم صدور أي نفي أو توضيح رسمي حتى تاريخه، كل ذلك يشير إلى أن ما ورد من محددات متداوله، بما فيها من تعدٍّ على الحريات المصانة دستورياً بحق العاملين في الدولة، ربما تكون متضمنة في مشروع قانون الإعلام الجديد المزمع إعداده من قبل وزارة الإعلام.
أما الغاية الواضحة فهي ضمان صمت العاملين في الجهات الحكومية على كل ما يشاهدونه أو يعلمون به من مخالفات في أماكن عملهم، بالإضافة إلى الضغط عليهم من أجل كم أفواههم، حتى على كل ما يعانونه من موبقات ممارسة بحقهم وعلى حقوقهم.
وكحالة استباقية، كون مشروع القانون بحيثياته الجديدة لم يتم نشره بعد، نسجل الرفض الشديد على مضمون المحظورات أعلاه، لما فيها من كم للأفواه وتعدٍّ على الحريات.
ولنا وقفة أخرى عند نشر المشروع رسمياً من كل بد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1044
آخر تعديل على الخميس, 18 تشرين2/نوفمبر 2021 13:36