القطن السوري.. إلى أين المصير؟
نادين عيد نادين عيد

القطن السوري.. إلى أين المصير؟

الذهب الأبيض! من منا لا يتذكر كتب القراءة في الابتدائية التي كانت تحمل في طياتها ذلك العنوان، الذي يحكي قصةً سورية الضاربة في أعماق جذور التاريخ؟

نستطيع القول: «كان يا ما كان» لما سمعناه عن قطننا السوري، الذي كان أحد أهم المحاصيل الزراعية الاستراتيجية التي يعتمد عليها الاقتصاد الوطني!
فقد شكل القطن خلال الأعوام التي سبقت الأزمة، بين 20 إلى 30% من مجمل الصادرات الزراعية، فضلاً عن أنه، كمنتج أولي مع صناعاته الرديفة، يؤمن العمل لمئات الآلاف من الأيدي العاملة، كما كان المنتج الزراعي الأول والصناعي الثاني، الذي ساهم بتأمين القطع الأجنبي بعد النفط.

لماذا نقول كان يا ما كان؟

تراجعت الزراعة بشكل عام، ومنها: القطن، خلال سنين الحرب عموماً، ومن خلال ما أنتجته السياسات الليبرالية الاقتصادية، خصوصاً منذ ما قبل الأزمة وحتى يومنا هذا، من نهب وفتح باب الفساد على مصراعيه، وسلاسل تخفيض الدعم بأشكالها المتنوعة، والتي مست القطاع الزراعي، ابتداءً من تخفيض الدعم عن المحروقات، سواء بالكم كمخصصات، أو عبر رفع أسعارها، وصولاً لارتفاع تكاليف سلاسل الإنتاج ومستلزماته، من أسعار البذار والأسمدة والحراثة...إلخ، وعلى سبيل المثال لا الحصر: كان آخرها رفع الدعم عن الأسمدة الزراعية خلال الشهر الماضي، كأحد نتائج السياسات الليبرالية الشرسة والمستمرة بتوحشها، لتضيّق الخناق أكثر وبشكل أشرس، فإلى أين المصير؟

القطن المستورد! بين الترحيب والاستنكار

نشر الموقع الرسمي لرئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 1 تموز الحالي، ما يلي:
وافق رئيس مجلس الوزراء على توصية اللجنة الاقتصادية بتأييد مقترح وزارتي (الاقتصاد والتجارة الخارجية والصناعة) السماح باستيراد مادة القطن المحلوج للقطاع العام والصناعيين فقط، وفق طاقتهم الإنتاجية الفعلية لمدة ستة أشهر فقط، والسماح للصناعيين باستيراد مادة الخيوط القطينة بكمية /5000/ طن فقط، وفق قرار وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية رقم /192/ لعام 2014 ووفق قوائم تقدمها وزارة الصناعة على أن تصل آخر شحنة قبل تاريخ 31/12/2021.. وتأتي الموافقة في ضوء التوصيات المنبثقة عن الملتقى الأول للصناعات النسيجية الذي عقد أواخر العام الماضي، وبهدف تلبية احتياجات السوق المحلية من الأقطان المحلوجة.
القرار عملياً سيوجه صفعة قوية تجهز على الإمكانات المتبقية لزراعة القطن، وانعكاس القرار سيكون مؤلماً على واقع الأسعار، التي ستستهلك جيب المواطن أولاً، وعلى إيقاف عجلة الإنتاج لكثير من شركات الصناعات النسيجية، في حال الاستمرار بسياسة الاستيراد التي فُتح بابها اليوم، وربما لن يُغلَق، بل سيُغلق الباب أمام إنتاج القطن السوري العريق، مع كل الصناعات القائمة عليه كمادة أولية!
وربما ستكون بداية سيناريو يُحول هذا البلد المنتج للقطن، والذي كان يصدر ما يفيض عن حاجته المحلية ما قبل سنين الأزمة السورية، إلى بلد مستورد، وسيتم نسف كل الجهود المبذولة لإتمام سلاسل الإنتاج، من الزراعة مروراً بالمحالج ومعامل الغزل والنسيج، وليس انتهاءً بصناعة الألبسة مع كل متمماتها، والتي أخذت سنيناً طويلة حتى تم استكمالها، وليس ذلك فقط، حيث سيفقد مئات الآلاف من العاملين ضمن هذا القطاع فرص العمل، من فلاحين ومزارعين ويد عاملة زراعية، والعمال ضمن شركات الصناعات النسيجية ومعامل وورشات الألبسة.
لا بد من الإشارة إلى أن القرار لقي تفاوتاً بالآراء، ضمن الجهات المعنية والأوساط التجارية والصناعية، بين مرحب ومستنكر، وربما يمكن إدراج ذلك التصنيف بين متضرر ومستفيد من كل تلك العملية النهبوية القديمة الجديدة.
فهي بالعمق تخدم مصالح حلقة الفساد المتكاملة، والتي تبدأ دائماً من قرارات تلك الجهات الرسمية التي تخدم من يقف وراءها، من كبار حيتان المستوردين والتجار وبعض الصناعيين الفاسدين، طبعاً بغض النظر عن حجم الضرر الكارثي الذي سيتكبده الفلاح والمزارع أولاً، والمواطن المستهلك ثانياً، وتأثيراته على السوق السورية التي كانت تعتبر منافسة للأسواق العالمية بالخيط والأقمشة والألبسة الجاهزة أيضاً.

القرار بانعكاساته السلبية

من المؤكد، أن الأزمة السورية أثرت بشكل حقيقي وسلبي على واقع القطاع الزراعي، خصوصاً أن مساحات واسعة قد خرجت عن السيطرة أو تحولت إلى ساحة قتال، ولكن بعد انتهاء العمل العسكري على غالبية الأراضي السورية بما في ذلك المناطق الزراعية التقليدية، فمن المفترض أن يتم التشجيع لإعادة إحياء الزراعة بمساحاتها السابقة، ولا سيما القطن والقمح كونهما من المحاصيل الاستراتيجية التي تنعش الاقتصاد الوطني، وخصوصاً أن المساحات التي يزرع فيها القطن قد عادت بجزئها الأكبر مناطق أمنة، وتتراوح بين عدة محافظات، مثل: الحسكة والرقة وإدلب ودير الزور وحماه والغاب وحلب.
فالتراجع بإنتاج محصول القطن كان ذريعة لاستيراد القطن والخيط، وهذه العملية ستستنزف من القطع الأجنبي لسد التكاليف، وبدلاً من ذلك الجدير على الجهات المعنية تقديم الدعم لموسم زراعة القطن بشكله الكامل للعام القادم، وبمساحات أوسع، ليس فقط لإعادة عجلة الإنتاج الحقيقي للقطن، بل ليصبح مساهماً بالإنتاج الوطني كما السابق، ولما سيوفره من استنزاف للقطع الأجنبي، وأما إذا استمرت الجهات الحكومية بعملية الاستيراد ورفع الدعم المتتالي، فهذا يعني أنها ستقطع الطريق أمام الفلاح، فإما أن يهجر أرضه نحو مهنة أخرى، أو يتوجه نحو نمط زراعي مختلف لا يثقل كاهله!.
وعندما نقول استيراد، أي أنه ستضاف على تكاليف استيراد الخيط والقطن، أرباح المستورد نفسه، مع غيرها من التكاليف الأخرى بذريعة العقوبات والحصار، ومن المؤكد أن العملية ستكون وفق الأسعار العالمية، ما يعني زيادة التكاليف على الصناعي، والتي ستنعكس على جيب المستهلك بالنهاية، فالقطن والخيط ليسا إنتاج محلي، والمعادلة ستختلف والأسعار ستحلق، ناهيك عن شبكات السوق السوداء التي ستنشط وستزيد الطين بلة.

منظومة الفساد لا تحارب نفسها!

بالمحصلة، السؤال الواجب طرحه: بميزان من تصب تلك الجهود الرامية والعاقدة عزمها على الاستمرار بضرب الاقتصاد الوطني حتى الرمق الأخير، والتي أدت إلى تراجع الإنتاج بشقيه الزراعي والصناعي، ولزيادة إفقار المواطن؟
فالسياسات الليبرالية المطبقة قد مست الدعم بجميع أشكاله، وهي ماضية بعمليات خصخصة القطاع العام بشكله الفج والمبطن، كما تعيق وتعرقل الإنتاج والعملية الإنتاجية، وتوجه الضربات المتتالية لكل القطاعات المنتجة، تلك المسيرة التي قادتها الحكومات المتعاقبة منذ ما قبل الأزمة، وخلال سنين الحرب، وحتى يومنا هذا، تيسيراً لمصالح الفاسدين وكبار الحيتان، ومع هذه السياسات لا يمكن رفع شعار مكافحة ومواجهة الفساد، فهل يمكن لمنظومة فساد أن تحارب نفسها؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
1025