الأزمة الكارثية والحجج القاتلة
تحولت غالبية أحلام الشعب السوري- بعد عشرة أعوام من حربٍ دامية وأزمة عميقة بالحصول على حياة مُنعمة خالية من الدماء- إلى كابوس مزعج ومزمن بقي يطاردهم ليومهم هذا، ترافق بـ «غلاء المعيشة، الجوع، الفقر، النزوح والتشرد، الهجرة الداخلية والخارجية، البطالة».. وغيرها الكثير من المظاهر المأساوية الأخرى.
فبعدما ودّع الشعب السوري سنوات الحرب والقصف والموت، استقبل سنواته التالية بظروف أقسى من الظروف التي مرت به في السابق، تجلت بالكثير من مظاهر الكارثة، حتى دون تحريك ساكن من قِبل الحكومة وجميع المعنيين من أولي الأمر في البلاد.
رمضان والسيناريو الكارثي
تحديداً، وخلال العامين الماضيين وحتى اليوم، شهدت الأسواق السورية قفزات كبيرة بأسعار السلع لم يشهد لها مثيلاً من قبل، والتي لم تتوقف ولم ترحم الغالبية المفقرة من الشعب بأكملها، وذلك بدور مباشر من قبل كبار الحيتان والفاسدين، الذين يتحكمون بالسوق وسلعه، عرضاً وطلباً وسعراً ومواصفة، وبدعم حكومي منقطع النظير لهم.
فقد أصبحت الأسعار تتغير بشكل يومي، بل كل ساعة بالحجج والذرائع ذاتها، وربما أحياناً بـ «تحديث بسيط» على تلك الذرائع ليس إلا!
وعلى واقع التدهور المتزايد للقيمة الشرائية لليرة أمام سعر الصرف في السوق السوداء، وما يرافقه من زيادة جنونية في الأسعار، أدى هذا الارتفاع الجنوني إلى توجه الكثير من الحيتان الكبار، وبعض أصحاب المحلات بمجهود شخصي، إلى تسعير سلعهم بالدولار، بشكل معلن أو غير معلن، للحفاظ على مكاسبهم وهوامش ربحهم، وبالحد الأدنى الحفاظ على قيمة سلعهم، طبعاً دون ملاحقة ومتابعة جهات الرقابة وحماية المستهلك، فلا محاسبة ولا ضبط حقيقي وجدي لما يجري في الأسواق!
فما زالت أزمة اختفاء بعض السلع، أو إن صح القول «احتكارها» بغاية التحكم بسعرها استغلالاً يزيد الوضع سوءاً، خصوصاً ونحن على اعتاب شهر رمضان.
صدور السوريين موجوعة
شهدت وتشهد الأسواق في هذه الفترة ارتفاعاً غير مسبوق بأسعار المواد الحياتية الأساسية التي تعتمد عليها الأسرة في غذائها المنقوص والمتقشف سلفاً.
فقد أثقلت الأسعار كاهل المواطن السوري، وزادت الأعباء عليه أكثر فأكثر، خصوصاً الغالبية المفقرة التي تشكل نسبة كبيرة من ذوي الدخل المحدود أو المعدوم، وهم أكثر الفئات التي تأثرت بشكل سلبي بهذا الارتفاع الجنوني.
فقد ارتفعت أسعار اللحوم حتى باتت من المنسيات لدى الغالبية من الأسر المفقرة، وارتفعت أسعار الحليب ومشتقاته، بما في ذلك حليب الأطفال للأسف، رافق ذلك ارتفاع بأسعار السكر والزيت والسمن، وينطبق هذا الارتفاع على المنتجات الغذائية الجافة المعبأة والمغلفة، وارتفعت أسعار الأدوات الكهربائية والمعدات الصناعية والمشتقات النفطية، وكذلك أسعار الأدوية وتكاليف العلاج، وصولاً إلى ارتفاع المادة الغذائية الأساسية ألا وهي الخبز، سواء التمويني أو السياحي والسكري.
والسبب في كل ذلك، هو الإهمال في آليات الضبط والرقابة الحكومية، وهو دليل واضح على التقصير في الأداء الحكومي، بل الغياب شبه التام للدور الحكومي المفترض.
الدخان وسعر الصرف حالة استثناء
بات من الطبيعي أن ترتفع أسعار السلع مع ارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء، بغض النظر عن الاعتراف الرسمي بذلك من عدمه، ولكن لماذا لا تنخفض الأسعار مع انخفاض سعر الصرف، أو تستقر مع استقراره؟
فإذا كان تسعير المنتجات والسلع والمواد مرتبطاً بتكاليفها، فإن سعر الصرف في السوق السوداء ليس المُحدد الوحيد في هذه التكاليف، وبالتالي في التسعير النهائي، ومع ذلك نجد أن نسب الارتفاع في الأسعار على المواد والسلع في الأسواق غالباً ما تتجاوز نسب متغيرات سعر الصرف بدرجات!
على الطرف المقابل، تجدر الإشارة إلى أن قطاع الدخان «المهرب أو المستورد» هو الوحيد الذي يتماوج سعره بما يتوافق مع تبدلات سعر الصرف نسبياً، ارتفاعاً أو انخفاضاً، ويستقر مع استقراره!
وهذه المعضلة لم يوجد لها أي تفسير طيلة السنوات الماضية، وكأن ما ينطبق على الدخان لا ينطبق على غيره من السلع في الأسواق، أو كأن حيتان هذه السلعة مختلفون عن حيتان بقية السلع، علماً أنهم شركاء في النهب والفساد!
غياب الحلول سببه السياسات
يعيش السوريون اليوم بتحولات فرضت عليهم تلك المصائب والأزمات المُفتعلة والمقصودة من قبل جميع المعنيين، المباشرين وغير المباشرين، من تجار حرب وأزمة، وحيتان مال وأرباح، ومستغلي السوق السوداء، وارتفعت وتائرها وتسارعت على أرض الواقع، في ظل الاستمرار بالنهج الحكومي المتبع المحابي لمصالح هؤلاء على حساب مصالح الغالبية دون رحمة أو شفقة أو تأنيب ضمير، وصولاً إلى شفير القضاء على هذه الغالبية جوعاً وقهراً.
فحجة سعر الصرف في السوق السوداء، كما حجج وذرائع العقوبات والحصار، يتم تعميمها للتغطية على كل موبقات الأسواق وتداعياتها التي أصبحت قاتلة، بما في ذلك ما يصدر رسمياً من قرارات تصب في تخفيض الدعم الحكومي على السلع الأساسية تباعاً.
فلم يشهد المواطن من الحكومة طيلة السنوات الماضية إلّا مزيداً من القرارات الخُزعبلية التي لم تسد رمقه، مع بعض التصريحات التي يمكن اعتبارها إبرة بنج مؤقتة لإغلاق فمه فقط لا غير.
فإذا كانت الحكومة عاجزة فعلاً عن تحقيق استقرار في سعر الصرف بما يحد من رفع الأسعار، فمن المفروض بالحد الأدنى أن تقوم بمهامها على مستوى ضبط هذه الأسعار بحال انخفاض سعر الصرف، علماً أن هذا وذاك أمر ممكن بشرط التغيير الجذري لسياساتها كاملة، وهو ما يجب أن يتم عاجلاً وليس آجلاً، برغبة الحكومة والقائمين على الأمر في البلاد، أو رغماً عنهم، فالأمر وصل حدود بقاء المواطن على قيد الحياة من عدمه، وربما حدود بقاء سورية نفسها من عدمه أيضاً!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1010