البحارة السوريون بلا حقوق..
تعد سورية من أهم مراكز التجارة البحرية بسبب منفذها المطل على المتوسط، وتعتمد هذه التجارة بالدرجة الأولى على البنية التحتية، وتوفر الوسائل «السفن» وقوة اليد العاملة لتسيير عمل هذه الوسائل.
وبالنظر لمكانة قطاع النقل البحري عالمياً، وسهولة نقل البضائع المقترنة بالتكلفة، فإنه في بلادنا يتمتع بأسوأ الخدمات، بدءاً من الموانئ غير الآمنة، مروراً بنوعية السفن المتهالكة، وصولاً إلى العمالة البحرية السورية المنبوذة والرخيصة جداً بالمقارنة مع بقية الجنسيات العاملة في هذا القطاع، بكل أسف.
ظروف عمل قاسية ولا دولة ولا نقابة
النبذ والرخص لم يقتصر على تطنيش وغياب دور الدولة، أو تغيّبها، بل تعداها للحرمان من وجود نقابة تقوم بتمثيل دور حقيقي للعاملين السوريين في البحر، بالإضافة إلى ازدهار عمل السماسرة الذين يتقاضون مبالغ عالية بالنسبة للدخل، فأقل ما يُدفع هو مرتب شهر، حسب الرتبة، ومن ثم الاحتكار الواسع للعمالة ومنع تشغيل الجيل الجديد بحجج واهية «بسبور أبيض»، أي: عامل للمرة الأولى بلا خدمات، وحرمان العمال من التعويض المالي اللازم للعلاج، وكذلك حرمان أهل البحار من التعويض المالي المترتب في حال موت البحار أثناء العمل، أو في حالة فقدانه في المحيط، بالإضافة إلى التأخر بدفع الرواتب و»لطشها» إن أمكن، مع جور صاحب العمل وتسلطه على العمال من خلال فرض ساعات عمل تصل لـ 12 ساعة، وتصل الأمور أحياناً لجعله يعمل حتى في أيام العطل مجاناً تحت أصعب الظروف، وضمن بيئة عمل مُجهِدة تتطلب اليقظة والجاهزية التامة باستمرار، لأنه دوماً تحت الطلب والاستدعاء للعمل وسط أمواج البحر الهائجة، ويُطلب منه القيام بأعمال تفوق قدراته الجسدية والعقلية أثناء وجوده في البحر لعدة أشهر، ويعملون لمدة 10 ساعات على الأقل يومياً على مدار الأسبوع، وعلى طول العقد، بدون راتب أو حتى مكافأة، مع العلم أنه يتم الخصم من راتبه في حال رفضه لأية مهمة تُطلب منه في أيام العطل والراحة، والتي هي في طبيعة الحال شبه معدومة، كما أنه نادراً ما يتمكن من التواصل مع أسرته ويعيش في أسوأ الحالات.
أمراض مهنة
يتعرض البحار لتقلبات مزاجية حادة، لاضطرابات في النوم، وكذلك للاكتئاب، ومن التعب المزمن الذي يؤدي بسهولة إلى الحوادث، بالإضافة إلى اعتقاد غالبية البحارة أنهم يعانون من خلل بصري بسبب رعشة جفن العين والعيون الدامعة، لكنها ليست سوى أعراض الإرهاق الشديد، وذلك لأن العمل يأتي في كثير من الأحيان على حساب راحة الطاقم، مما يوصل في بعض الأحيان إلى فقدان البحار الحافز للحياة.
وتعد الحياة على متن السفن صعبة التحمل، ولا سيما في فترة الشباب، بينما القدامى فإنهم غالباً ما يتعاملون مع الضغوط بالإفراط بالتدخين، وربما بتناول المشروبات الكحولية «ممنوعة التناول على متن السفينة»، مما قد يودي بحياتهم إلى التهلكة، وغالباً ما تكون الأسباب مجهولة، وحتى إن عرف السبب فما من مسؤول يطالب بهم أو جهة تدافع عنهم!
شروط خاصة وأخرى مجحفة
يتم إجبار البحار السوري من الرتب الصغيرة على إصدار شهادات من المركز البحري السوري، مع العلم بأن الكثير من البواخر لا تحمل العلم السوري كجنسية، بل تحمل علماً يسمح لمالك الباخرة بتطقيم باخرته بأقل عدد مسموح به من البحارة، وبذلك يترتب على البحار إصدار نوعين من الشهادات، سورية وأخرى يرغب بها مالك الباخرة، وبحسب أحد البحارة، فإن شهادة المركز البحري تمنع تعيين أي أحد من طرطوس إلا بشهادة سورية حصراً، علماً أن نسبة كبيرة من البواخر التي تصل إلى طرطوس عَلَمها لا يقبل الشهادة السورية، مما يضطرهم لتعيينهم تسيير حال «تمشاية طريق»، ويتم «تطفيرهم» في الميناء التالي، يضاف إلى ذلك أن عملهم قد يكون بلا راتب كونهم لم يستوفوا العقد.
ضحايا سوريون بلا حقوق
كثيرة هي الأمثلة عن السوريين الذين كانوا ضحايا العمل القاسي وأرباب العمل المتسلطين، وغياب جهات الرعاية والحماية، وسنورد فيما يلي حادثتين دفع ضريبتهما بحارة سوريون.
البحار (م. ش) الذي فقد من الباخرة «بولوكس»، ناقلة بضائع حية في المحيط الأطلسي، وذلك قبالة الساحل البرازيلي أثناء قيامه بدورية مراقبة للبضاعة، وقد اشتركت في البحث عنه بواخر تابعة للشركة، وأخرى تابعة للبحرية البرازيلية، وبعض البواخر في المنطقة، دون نتيجة، حيث اعتبر (م. ش) مفقوداً في البحر بشكل رسمي.
في هكذا حالات من المفترض تقديم مبلغ تعويضي للعائلة وقدره 45000$، ولكن واقع الأمر لم يتمكن أحد من أفراد عائلته من الحصول على أدنى تعويض!
أما (م. ع)، وهو شاب سوري يعمل على إحدى سفن الشركات الأجنبية برتبة كبير ضباط، حيث كان ضمن الطاقم الذي أبحر إلى مصر، وكانت هناك مخالفات كبيرة متراكمة على السفينة لصالح السلطات المصرية، فقامت السلطات المصرية باحتجاز الباخرة، وألزمت الشاب بأن يبقى على الباخرة كحارس رغم رفضه الملحّ، ولعدم وجود سفارة أو صلة وصل للسوريين في مصر، أٌجبر الشاب على العيش في الباخرة، مع حرمانه من أساسيات الحياة، بلا كهرباء بلا إنارة بلا طعام وماء أو مال، ما عدا «الصدقة» التي تأتيه سراً من بعض الصيادين الذين يمرون بقرب الباخرة بين الحين والآخر، ليتمكن من شراء ماء الشرب والقليل الطعام، عدا عن الحالة الصحية المتدهورة التي يعيشها حالياً، ومنذ سنوات والشاب يعيش على هذه الحالة، وقد لجأ أهالي الشاب إلى كل الجهات الرسمية في الدولة، وكان جوابها موحداً «هذا ليس اختصاصنا»!.
ويتساءل أهالي (م. ع)، وسواه من البحارة الذين فقدوا حياتهم، صحياً وجسدياً ونفسياً: من المسؤول عن حقوق هؤلاء؟ وأين الدولة من مواطنيها «عبيد الغربة والاضطرار»؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 990