النهب باسم الرغيف وشراء الذمم..
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

النهب باسم الرغيف وشراء الذمم..

لم ولن تُحل أزمة الرغيف طالما تم ترك السبب الرئيس خلفها، والمتمثل بالفساد والنهب الكبير الجاري باسمه وفي عمق أزمته، وفي ظل اللامبالاة الرسمية تجاه الحد الدنى من الأمن الغذائي، الذي أصبح يمثله هذا الرغيف.

فقد وصل سعر ربطة الخبز إلى 100 ليرة رسمياً مع تخفيض وزنها، ومع ذلك ما زالت مظاهر الازدحام أمام الأفران سائدة، وما زالت السوق السوداء تستغل حاجة المواطنين من المادة.
لن نعدد ما طرأ من تغيرات على سعر ربطة الخبز خلال مسيرة القرارات والتعليمات تحت عناوين الأزمة وتخفيفها خلال السنوات الماضية، وحتى تاريخه، ولا عن الخطوط الحمراء التي تم تجاوزها بأشواط، بل سنكتفي بالحديث عن نتائج القرارات على مستوى استمرار فاعلية السوق السوداء على الرغيف، وعن استمرار تردي مواصفته وجودته، وعن استمرار النهب الجاري باسمه.

شرعنة السوق السوداء

كل الإجراءات الرسمية التي صدرت ونفذت، كانت تتمحور حول تخفيض الدعم فقط، والتي أدت بشكل مباشر إلى تفاقم الأزمة بدلاً من أن تحلها، بل وشرعنت عملياً عمل السوق السوداء وشبكته العاملة أيضاً.
والأمر جداً بسيط، فأن يتم فرض سقف لحدود الاستهلاك بموجب البطاقة الذكية دون الحاجة الفعلية، هو باب مفتوح على مصراعيه لاستمرار عمل السوق السوداء، وهو ليس إجراء مرتبطاً بتخفيض الدعم فقط، فكمية الاحتياج الفعلي التي جرى تجاوزها رسمياً بحيث تصبح أية كمية يجري استهلاكها أكثر من واقع رغيف في كل وجبة طعام للفرد الواحد تقريباً، بحسب السقوف المفروضة، يجب تأمينها اضطراراً إما من المخابز السياحية أو من السوق السوداء، ولا خيار آخر بديل عن ذلك، والنتيجة: أن السوق السوداء أصبحت ضرورة، وقد انتزعت مشروعيتها أمام دورها على مستوى سد النقص في الحاجة!.
في المقابل، لا شك أن هذا الكلام مع نتائجه ليس جديداً على المسؤولين، ومن عملوا على إصدار مثل هذا القرار المجحف بحق المواطنين واحتياجاتهم، فهؤلاء أخبر من غيرهم بهذا الصدد، بل ومختصون به، لكنهم بذلك بدوا وكأنهم أكثر حرصاً على استمرار عمل شبكات السوق السوداء وداعمين لها، بدلاً من وضع الحدود لها، ومحاسبة القائمين عليها والعاملين بها!

الجودة من سيئ لأسوأ

أن يتم تطنيب آذاننا رسمياً بين الحين والآخر عن جودة الرغيف، وعن التقيد بمواصفاته، دون أن يكون لذلك جدوى على أرض الواقع هو ذرّ للرماد في العيون.
فواقع رغيف الخبز يقول: إن مواصفته وجودته في تراجع مستمر، وكأن الموضوع مرتبط بآليات «تطفيشية» غايتها استنكاف بعض المواطنين عن استهلاك هذا الرغيف، أو الاضطرار لرمي بعضه بسبب عدم التمكن من استهلاكه بعد فترة وجيزة.
فقد بات من الصعوبة استهلاك الرغيف بعد مضي يوم على شرائه من قبل المواطنين على أبعد تقدير، بسبب تراجع جودته، ومصير الكمية المتبقية إلى التيبيس للاستهلاك اللاحق، أو إلى من يقومون بالمتاجرة به، وهؤلاء ليسوا بعيدين عن شبكات الفساد والنهب العاملة في عمق رغيف الخبز أيضاً، خاصة إذا علمنا أن بعض الكميات من الخبز غير المباعة في يومها تبقى في المخابز لهذه الغاية، وهذا الإجراء له طابع رسمي تحت مسميات ونسب مختلفة، غير ناضج- تالف- غير صالح للاستهلاك...
فالحديث مثلاً عمن يقوم بضخ كميات من الخبز التمويني كي يكون علفاً، ويباع على هذا الأساس، يطال كل ما يبقى من كميات غير مباعة عبر المنافذ للمواطنين بذرائع مختلفة، سواء لدى المخابز أو لدى المعتمدين.

النهب الكبير

نصل إلى المسألة الأساس والمتمحورة حول النهب والفساد الكبير باسم الرغيف التمويني، فحتى تاريخه ما زالت عمليات تهريب الدقيق التمويني جارية على قدم وساق، سواء من المخابز الحكومية أو الخاصة، أو من المطاحن الحكومية والخاصة، والدليل هو ما يتم ضبطه رسمياً من كميات في الأسواق، ولا أحد يعلم حجم المُهرّب الذي عجزت أجهزة الرقابة والمتابعة عن ضبطه، وهي أكبر من الكميات المضبوطة دون أدنى شك، ناهيك عن أوجه الفساد التي تعتري عمليات الرقابة والمتابعة بهذا الشأن، والتي تغطي عن الكثير من عمليات التهريب الجارية، بانتظار الصدفة التي قد تكشف بعضها ليس إلا، وعلى ذلك سوابق تم تسجيلها وعرضها عبر بعض وسائل الإعلام خلال السنوات الماضية.
كما ما زالت صفقات القمح والدقيق الكبيرة بعيدة عن الأضواء بتفاصيلها، خاصة مع هوامش الربح الكبيرة المضافة إلى هذه الصفقات بذريعة الحصار والحرب والأزمة والعقوبات، حالها كحال أية صفقة تتم لمصلحة الجهات الحكومية لاستجرار بعض السلع والمواد، وخاصة الغذائيات والمحروقات، على أيدي كبار التجار والمستوردين.
وأخيراً، ربما يجب التوقف عند الهوامش الكبيرة التي يتم نهبها من المواطنين من خلال شبكات السوق السوداء للرغيف التي تعمل بمحيط المخابز، على أعين الجميع.

الجوع ومليارات النهب

لعلنا لا نبالغ بالقول: إن تجميع مفردات أوجه النهب الكبير المتعدد أعلاه يصل إلى مبالغ طائلة، ربما تقدر بالمليارات من الليرات السورية سنوياً، وهي دون أدنى شك مبالغ كبيرة ومغرية وقادرة على شراء الكثير من الذمم، في ظل تفشي أنماط الفساد المغلف والمغطى عليه، مع استمرار الحديث عن الدعم الحكومي السنوي على الرغيف، ليس بغاية التمنين فقط، بل بغاية الحفاظ عليه كونه مصدراً من مصادر النهب الكبير أولاً وأخيراً، وطبعاً كل ذلك على حساب المواطنين ومن جيوبهم، كما على حساب الاقتصاد الوطني، ومع ذلك لم نر حتى تاريخه أي إجراء رسمي جدي للحد من هذا النهب الكبير، بل ولا حتى أية مقاربة عن حجمه الفعلي!.
وبعد كل ذلك تتحفنا الحكومة بالحديث عن القرارات القاسية وعن عدم سعادتها بها، ضاربة عرض الحائط بأمننا الغذائي كمواطنين، خاصة بعد أن أصبح رغيف الخبز هو الغذاء الوحيد للغالبية من المفقرين، المدفوعين رغماً عنهم نحو المزيد من الجوع، بسبب مجمل السياسات التوحشية الممارسة بحقهم، ولمصلحة كبار الحيتان من الفاسدين والناهبين.

من الأمن الغذائي إلى أمن البلاد والعباد..

الموضوع تجاوز حدود المواربة والالتفاف، وقد وصل حدود الفجاجة والوقاحة والتوحش، فالجوع ضرب أطنابه، والحكومة، ومن خلفها من القائمين على الأمر في البلاد، ماضية بسياساتها التجويعية والمذلة من طرف، والمحابية لكبار الناهبين والفاسدين من طرف آخر، مع علمها وإدراكها أن جمر الأزمة ما زال متقداً تحت الرماد، ورمي المزيد من الحطب عليه سيجعله مستعراً من جديد، والقضية على هذا الأساس لم تعد مقتصرة على الأمن الغذائي للغالبية من المفقرين فقط، بل وعلى أمن البلاد والعباد أيضاً!، وهنا ربما يصح القول: «إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم!».

معلومات إضافية

العدد رقم:
990