مسلسل الحرائق.. فصول كارثية تضاف إلى كوارثنا
أسبوعان ناريان كانت حصيلتهما التهام المئات من هكتارات الغطاء النباتي، غابات وحراج وأحراش، وأراضٍ زراعية ومحمية، والتي تحولت إلى اللون الأسود، كفصل كارثي مؤلم جديد، يضاف إلى فصول كارثتنا المستمرة.
عشرات الحرائق المتتالية سُجلت خلال الأسبوعين الماضيين، والتي اتسعت دائرتها لتشمل عدة محافظات (حماة- طرطوس- اللاذقية- حمص)، وأصبحت على تماس مباشر مع القرى المجاورة لمناطق اتساعها، مهددة عشرات البيوت التي نزح أهلها عنها هرباً من سعيرها.
لا مفاجآت
لا مفاجأة في توقيت اندلاع الحرائق، ولا مفاجأة في أماكنها واتساع رقعتها. فموسم اشتعال الحرائق، المفتعلة أو الطبيعية، أصبح متعارف عليه كل عام، مكاناً وزماناً، وكذلك، على الأغلب، لن تكون هناك مفاجأة على مستوى تجيير المسؤوليات في هذا الموسم!.
ففي كل عام يتم تقديم المزيد من غاباتنا وحراجنا الطبيعية والمحميات، بالإضافة للأراضي الزراعية، كقرابين لتلتهمها النيران المستعرة، على طول امتداد هذه الغابات المتصلة في مناطق (الغاب- جبال مصياف- طرطوس- اللاذقية- حمص)، بالإضافة لبعض المناطق المنفصلة في محافظات أخرى.
ولا مفاجأة في أن تكون الطبيعة والظروف الجوية والرياح متهماً أولاً رئيساً، واستهتار بعض المواطنين (العائمين الغائمين) ربما سبباً ثانياً، لتغلق ملفات الحرائق كما كل موسم، بانتظار الموسم التالي، وهكذا..
بعض التوثيق
عن صفحة الحكومة بتاريخ 6/9/2020: «مدير الموارد الطبيعية في الهيئة العامة لإدارة وتطوير الغاب قال: فرق الإطفاء والدفاع المدني تخمد نحو 75% من النيران في حريق غابات فريكة بريف حماة الشمالي الغربي والحريق يقضي على مساحات واسعة من الغابات، ويلحق أضراراً بممتلكات الأهالي».. «مدير مركز حماية الغابات في حماة قال: فرق الإطفاء والدفاع المدني تخمد الحريق الضخم الذي نشب قبل أربعة أيام في حراج بيرة الجرد وامتد إلى أحراج النهضة والمجوي المشرفة وعين البيضة والفندارة بريف مصياف».
عن صفحة «الإعلام الزراعي في سورية» بتاريخ 5/9/2020: «بين رئيس قسم الحراج في الهيئة العامة لإدارة وتطوير الغاب: أن الحريق في قرى ريف الغاب الشمالي انحدر من موقع جورة الرويدف التابع لمحمية الشوح والأرز في صلنفة، منوهاً أن جبهة الحريق كبيرة جداً تبلغ عدة كيلومترات وجبالها وعرة جداً ومنحدرة ومن الصعب الوصول إليها، وساعد في انتشارها الرياح التي هدأت منذ ساعات وحرارة الجو المرتفعة جداً.. وقال: دخلت النار بين عدد من المنازل في الجزء الغربي لقرى الفريكة وعين بدرية مما اضطر الأهالي لإخلاء منازلهم حفاظاً على حياتهم، ولكن لم تتسبب بأي ضرر بشري واقتصرت الأضرار على الأشجار والبساتين المجاورة لتلك المنازل، وسيتم حصر الأضرار لاحقاً، مشيراً إلى أن فرق الإطفاء تمكنت من تحييد تلك المنازل وإخماد النيران حولها.. مضيفاً: «فرق الإطفاء أنهكت، فمنذ 17 يوم وعملها متواصل ليلاً نهاراً، قائلاً: منذ عدة أيام لم ندخل منازلنا».
عن سانا بتاريخ 5/9/2020: «لليوم الثالث على التوالي تواجه فرق الإطفاء والدفاع المدني النيران وتحاول السيطرة على الحريق الكبير في أحراج منطقة بيرة الجرد ومفرق عين البيضة بريف مصياف، في ظروف بالغة الصعوبة، نتيجة تمدد النيران مع تقلب اتجاه الرياح وارتفاع درجات الحرارة ووعورة المنطقة.. فيما قدَّر رئيس الجمعية الفلاحية في قرية بيرة الجرد المساحات الخضراء التي التهمتها النيران بأكثر من 2000 دونم».
استعدادات خلبية
يتم تداول بعض الأحاديث الرسمية عن الاستعدادات المسبقة لمواجهة موسم الحرائق، قبل وبعد كل موسم، وكذلك الحديث عن تأمين التجهيزات اللوجستية وتوفير المعدات والطواقم العاملة لدرء مخاطرها المحتملة.
وفي كل موسم «تقع الفاس في الراس»، لتظهر الهوة الشاسعة بين الأحاديث الرسمية الخلبية والممكنات التي تم توفيرها فعلاً لهذه الغاية، ولتسجل بالنتيجة المزيد من الخسائر الكارثية التي لا يمكن تعويضها على مستوى الطبيعة والبيئة، بالإضافة للخسائر الكبيرة التي تكبدها أهالي وسكان هذه المناطق، على مستوى أراضيهم ومحاصيلهم وأشجارهم، بل وبيوت وممتلكات بعضهم.
بهذا الصدد، وعلى سبيل المثال، بحسب ما نقلته «الثورة أون لاين» بتاريخ 18/5/2020 عن معنيين في وزارة الزراعة:
»تمّ وضع خطة على مستوى كل محافظة برئاسة المحافظ ومشاركة جميع الجهات المعنية في المحافظة، لإدارة مكافحة الحرائق، وتلفت المصادر إلى أنه تمّ العمل على تجهيز مراكز حماية الغابات وعددها 21 مركزاً بكافة المستلزمات كما تم تجهيز 62 برج مراقبة بالتجهيزات اللازمة من مناظير ومحطات لاسلكية وعناصر مناوبة ورفوش ومناشير ومضخات ظهرية وغيرها، بالإضافة إلى الآليات وصهاريج الإطفاء والجرارات وصيانتها وتوزيعها على المراكز حسب كثافة الغطاء الحراجي، وتأمين العمالة الموسمية، وشق وتعزيل الطرقات الحراجية بطول 3771 كم داخل الغابات.. كما تم التواصل مع المؤسسات والوزارات صاحبة العلاقة للتنسيق معها في حماية الغابات وللمؤازرة عند حدوث الحرائق، عدا عن تقليم الأشجار ونزع الأعشاب اليابسة».
وأمام مأساة سلسلة الحرائق الكارثية الأخيرة، نتساءل عن مآل الخطة المذكورة أعلاه، الموضوعة منذ أربعة أشهر، وعن الآليات والتجهيزات التي جرى الحديث عنها، وعن الطرقات الحراجية التي تم شقها وتعزيلها، وعن..!؟.
فواقع الحال، وشهادات بعض المعنيين، بالإضافة الى شهادات الأهالي، تقول: إن هناك الكثير من النقص بالآليات والتجهيزات والمعدات، وكذلك وجود الكثير من المعيقات اللوجستية للوصول للكثير من الرقع الجغرافية بسبب عدم شق الطرق الحراجية فيها، بالإضافة إلى نقص أعداد الكوادر المختصة والمدربة (إطفاء- دفاع مدني- عاملي حراج..).
جهود مضنية بعيدة عن الأضواء
تُبذل الكثير من الجهود المضنية والمتكاملة، من قبل فرق وعناصر الإطفاء بالتعاون مع فرق الدفاع المدني، مع المؤازرة الممكنة والمتوفرة من قبل الأهالي، وذلك في كل موسم من مواسم مسلسلات الحرائق المنفلتة، بحسب موقعها ومدى انتشارها وتوسعها، للسيطرة عليها وإخمادها، مع عدم تغييب ما يسجل من إصابات بدرجات متفاوتة بين أوساط هؤلاء، الجسدية والنفسية.
أما الملاحظ على هذا المستوى، فهو أن جميع هؤلاء غالباً ما يكونون بعيدين عن الأضواء، كجنود مجهولين، بينما تسلط الأضواء على بعض المسؤولين القابعين في مكاتبهم، مع بعض الاستثناءات على هذا المستوى ربما.
تحقيقات لا تطال شرائح المستفيدين
بحسب صفحة الإعلام الزراعي بتاريخ 5/9/2020، نقلاً عن وزير الزراعة: «تحقيقات صارمة حول الحرائق التي حدثت قبل أيام في عين الكروم في الغاب، والنتائج قد تظهر اليوم.. هناك تقصير وسيتم محاسبة المقصرين».
لكن ماذا عن نتائج تحقيقات الحرائق خلال المواسم السابقة، بل وحتى بعض حرائق الموسم الحالي؟.
وهل يمكن أن تمر نتائج كارثة موسم هذا العام من الحرائق، كما كل موسم، بحسب عبارة «يا دار ما دخلك شر»، باعتبار أن الخسائر والأضرار ربما تكون محدودة بحسابات أولي الأمر؟!.
فالشر طال واستطال واستفحل هذا الموسم، وكأن هناك سباقاً بينه وبين الزمن من أجل إحالة أوسع رقع من الغابات والحراج المتبقية إلى يباب!.
الأهالي ووسائل الإعلام، بل وبعض المسؤولين، كانوا قد أشاروا الى أن الكثير من الحرائق، ليس بهذا الموسم فقط، كانت بفعل فاعل، مع ربط هؤلاء الفاعلين بمصالح شريحة المستفيدين من استعار النار في الغابات والحراج، اعتباراً من تجار الفحم والحطب، وليس انتهاءً بسماسرة الأراضي وكاسري الحراج ومستثمريها، لكن أياً من التحقيقات لم تصل بنتيجتها إلى هؤلاء المستفيدين الكبار!.
تقصير حكومي
ربما الأهم على هذا المستوى هو التقصير والاستهتار الرسمي الذي تتحمله الحكومات المتعاقبة.
فموضوع التجهيزات والآليات، وشق وتعزيل الطرق الحراجية، واليد العاملة الفنية المفرغة، بالإضافة إلى زيادة أعداد عناصر الإطفاء والدفاع المدني وتأمين احتياجاتهم وحقوقهم، كل ذلك وغيره على هذا المستوى يقع بمسؤولية الحكومة قبل غيرها من الجهات الأخرى.
فالدلائل والمؤشرات تقول: إن نقص التجهيزات والآليات وقلة العمالة المستنفرة، بالإضافة للاستهتار بحقوق طواقم وعمال الإطفاء والدفاع المدني، تعتبر من أهم مسببات عدم التمكن من السيطرة على الحرائق، إنْ لم نقل استباق انتشارها، وكل ذلك سبق أن تمت الإشارة إليه والمطالبة به خلال السنين الماضية، بل العقود الماضية، دون جدوى!.
فالحكومات المتعاقبة، وعبر سياساتها الليبرالية التقشفية على مستوى الإنفاق العام، وانكفائها وتراجعها المتتابع على مستوى الخدمات العامة، يضاف إلى ذلك كل عوامل الفساد في هذا السياق، كان من إحدى نتائجها ما وصلت إليه الحال على مستوى نقص التجهيزات والمعدات الخاصة بالإطفاء، وغيرها من القضايا المرتبطة بهذا العنوان وتفاصيله.
والنتيجة، أن هذا التقصير والاستهتار الرسمي جرى ويجري استثماره على أوسع نطاق من قبل شريحة المستفيدين من الحرائق وانتشارها وتوسعها كل موسم، في غاباتنا وحراجنا وأراضينا الزراعية، ولا ينفع في هذا السياق استمرار إلقاء التهم على الطبيعة والرياح ودرجات الحرارة فقط، كما جرت العادة!.
خسائر كبيرة لا تعوض
لا بد من التأكيد على أن الخسائر السنوية المترتبة على مسلسل حرائق الغابات والحراج كبيرة جداً، ولا يمكن حصرها بالمليارات من الليرات السورية فقط.
فبعض الغطاء النباتي الطبيعي لا يمكن تعويضه نوعاً، وبعضه الآخر بحاجة لمئات السنين للتعويض، أما الخسائر البيئية فحدث بلا حرج على مستوى تداخلها وتشابكها، وتأثيراتها الكثيرة المتبادلة، بما في ذلك على مختلف الكائنات الحية، والإنسان ضمنها.
فالجريمة هنا لا تطال الحاضر فقط، بل والمستقبل أيضاً.
ملف وطني عام
مسلسل الحرائق المستمر والمنفلت، الذي يطال الغابات والحراج والمحميات والأراضي الزراعية والمواسم كل عام، بنتائجه وخسائره وتداعياته، من المفترض اعتباره من الملفات ذات البعد الوطني العام، خاصة بعد الأخذ بعين الاعتبار تأثيراته السلبية، الكبيرة والكثيرة والعميقة، الحالية والمستقبلية.
والمطلوب حالياً وعاجلاً الجدية بالمتابعة والضبط والمحاسبة، بعيداً عن أوجه الفساد والمحسوبية الطاغية على مجمل الأداء الرسمي.
وربما بهذا السياق يجب إعادة النظر في الكثير من العقوبات المنصوص عنها لقاء جرم افتعال الحرائق، ربطاً مع شرائح المستفيدين منها طبعاً، وخاصة الكبار منهم، بالإضافة للعقوبات الخاصة بالمقصرين والمهملين، وعلى كافة المستويات.
وكذلك الاهتمام وإعادة النظر بجملة القوانين والقرارات الخاصة بالعاملين في فرق الإطفاء والدفاع المدني، وخاصة على مستوى أجورهم وتعويضاتهم وبقية حقوقهم.
وللحديث تتمة حكماً، فمسلسل الحرائق لم ينته بعد!.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 982