متقاعدٌ أمام خيار الموت البطيء أو السريع!
نوار الدمشقي نوار الدمشقي

متقاعدٌ أمام خيار الموت البطيء أو السريع!

في حديث مع أحد أصدقائي المتقاعدين، في العقد السابع من العمر، أسرّ لي أنه بدأ يفكر بشكل جدي بخيار إنهاء حياته سريعاً، بدلاً من انتظار الموت البطيء، الذي أصبح مفروضاً عليه ولا فكاك منه، بسبب وضعه الصحي وأسعار الأدوية.

الحديث لم يكن سهلاً، لا على صديقي المتقاعد ولا عليّ كصديق مستمع، فقد كان فيه الكثير من الواقعية بتفصيلات مرارها وقساوتها، والتي نعيشها كلانا مع جموع المفقرين في البلد، في ظل الوضع الاقتصادي المعيشي الذي يدفع بنا جميعاً نحو الهاوية التي لا قاع بؤس لها، بالإضافة للكثير من الفجاجة المصاحبة لتداعيات فكرة الحياة والموت، والخيارات المحدودة والمفروضة حيالها.

صديقي الصلب غير الانهزامي

بدأ صديقي حديثه معي وكأني لا أعرفه مسبقاً، وليس بصديقي، وبكل حيادية كان يسعى للتأكيد على أنه صلب وقوي، ولم يكن في يوم من الأيام ضعيفاً أو انهزامياً ومنكسراً، برغم كل ما مر به من صعوبات خلال مسيرة حياته، وسواء في علاقاته مع أفراد أسرته، أو في مجال عمله، وبأن العقلانية والهدوء من صفاته، وهو ما أعدت تأكيده بدوري، من خلال معرفتي به وصداقتي معه.

عبء التكاليف أقسى من الأمراض

ثم بدأ يعدد الأمراض التي يعاني منها (تصلب الشرايين- الضغط- البروستات- قولون- هشاشة العظام- التهاب مفاصل- سكري- الساد- بدء تحلل عصبي- مع عدم إغفاله لأمراض اللثة والأسنان)، شارحاً أن بعض هذه الأمراض قديمة ومزمنة، وبعضها الآخر يعتبر من أمراض الشيخوخة، مع الاستفاضة بالحديث عن التداخلات المزعجة بين هذه الأمراض، وكيف تؤثر الأدوية الكثيرة بشكل سلبي على هذه التداخلات، ما يضطره لمراجعة الأطباء الأخصائيين بين الحين والآخر من أجل تعديل بعض جرعات الأدوية، مع تأكيده على أنه استطاع التعايش مع هذا الواقع المرضي، محاولاً القفز والتغاضي عن الكثير من المعاناة المصاحبة له.
أما الجانب الأكثر أهمية بالنسبة لصديقي فلم يكن واقع معاناته من الأمراض الكثيرة السابقة وتداخلاتها، بل كان بالتكلفة الشهرية الكبيرة التي يتكبدها لقاء شراء الأدوية الكثيرة، ولقاء المراجعات والاستشارات الطبية، ناهيك عن اضطراره للجوء إلى المشافي في بعض الحالات الاضطرارية.
وبحسب حديثه، فقد كانت هذه التكاليف الشهرية أكثر قسوة بما لا يقاس بالمقارنة مع الأمراض التي يعاني منها نفسها.

راتبان تقاعديان غير كافيين لتغطية قيمة الوصفات

يقول صديقي: إن راتبه التقاعدي الشهري، يتجاوز الخمسين ألف بقليل، كان بالكاد يستطيع تغطية قيمة الوصفات الطبية خلال الشهر، علماً أن بعضها يتم توفيره مجاناً من بعض المستوصفات الحكومية، لكن ذلك ليس دائماً، مثل: أدوية السكري والضغط، أما أجور الأطباء خلال المراجعات والاستشارات الاضطرارية فهي خارج حدود تغطية هذا الراتب، والتي يتم تغطيتها من راتب زوجته المتقاعدة هي الأخرى، علماً أنه يلجأ للمستوصفات العامة أو الخيرية فقط، وعند الضرورة القصوى، وطبعاً ذلك على حساب ضروراتهم المعيشية والحياتية، التي تراجعت بشكل كبير مؤثرة على صحتهم بدورها.
الطارئ المستجد الآن، أن الراتب التقاعدي لصديقي لم يعد كافٍ لتغطية قيمة الوصفات الطبية الشهرية، بل بالكاد يغطي نصفها في ظل ارتفاعات الأسعار على الأدوية الأخيرة، بل وفقدان بعضها مما يضطره لتأمينها تهريباً مع فارق سعري إضافي، وخاصة الأدوية النوعية للعين والأعصاب، الأمر الذي استهلك مقابله راتب زوجته تقريباً، في الوقت الذي بدأت زوجته تعاني هي الأخرى من أمراض الشيخوخة أيضاً، فقد ظهر معها (هشاشة- التهاب مفاصل- ضغط) حتى الآن، وبدأت حاجتها للأدوية الشهرية ولمراجعات الأطباء الأخصائيين.

خيار إنهاء الحياة عقلاني وليس يائساً

يقول صديقي: إنه أمام هذا الواقع سيضطر لتخفيض استعمال بعض الأدوية رغماً عنه، أو ستكون أدويته على حساب أدوية زوجته الضرورية، كما على حساب ضروراتهم الحياتية، وخاصة الغذائية، وبالتالي، فإن خيارات الحياة والموت بدأت تظهر عارية أمامه بدون أية رتوش.
فالقضية ليست حالة استثنائية يمكن تجاوزها، أو ظرفاً طارئاً يمكن معالجته، بل هي واقع ماثل بتفاصيله واحتمالاته المستقبلية المحدودة، وبهذا الصدد حسم خياره الأولي بأن يقوم بتقنين استخدام أدويته بعيداً عن الجرعات المحددة من الأطباء، وبدون علم زوجته، وطبعاً ذلك سيؤدي لتفاقم بعض أمراضه، وهو ما بدأ بشكل أو بآخر، أي: أن خيار الموت البطيء أصبح مفروضاً عليه، مكره أخاك لا يائساً!
وأمام هذا الواقع أيضاً، وخشية تفاقم أمراضه مستقبلاً، وتحميل زوجته أعباء إضافية في الوقت الذي هي بحاجة لعزيمتها وقوتها لمواجهة سني عمرها المتبقية، بدأ يفكر بكل عقلانية بإنهاء حياته سريعاً بدلاً من آلية الموت ببطء التي اتبعها، وبنفس الوقت لا يطاوعه قلبه على ترك زوجته من بعده لمصيرها، خاصة وقد بدأت معاناتها من بعض الأمراض هي الأخرى، وحاجتها له مع تقدمها بالسن، مع تأكيده على أن الموضوع بتعقيداته ما زال فكرة تدور مع تداعياتها بين جنبات دماغه بواقعية وهدوء، وقد أفشى بها إلي من باب الفضفضة ليس إلا!

بلا حلول وبدون ضمان

لعل الهام الذي دعاني لسرد كل ما سبق، مع تأكيدي على أن ما سردته أعلاه ليس إفشاءً لسر صديقي، فما يمكن اعتباره من محظورات الإفشاء احتفظت به، أن قصة صديقي المتقاعد بكل مرارها وقساوة خياراتها، ليست استثناءً من كل بد، بل هناك الكثير من القصص الشبيهة بواقعيتها وقساوتها ومرارتها، مع خياراتها المحدودة في الحياة الموت.
فغالبية المتقاعدين يواجهون هذه الخيارات، في ظل واقع التخلي عنهم وعن رعايتهم بعد أن أفنوا زهرة عمرهم، وأعطوا ثمرة جهدهم، في أعمالهم.
فمع الأسف، لا حلول حقيقية ومستمرة يمكن أن تكون متاحة أمام هذا الواقع القاسي والمجحف بحق المفقرين بشكل عام، والمتقاعدين بشكل خاص، فغالبية هؤلاء بلا ضمان صحي، وهم بهذا السن المتقدم بأمس الحاجة لهذا الضمان، فالأمراض تتزايد بشكل طبيعي مع التقدم في العمر، وقصة صديقي بالنتيجة ليست هي البائسة، بل هي السياسات الظالمة التي أوصلته مع غيره من المتقاعدين لهذه الدرجة من البؤس، وفوق كل ذلك فإن الأجور التقاعدية تعتبر أكثر إجحافاً، فهي كما ورد أعلاه بالكاد تغطي قيمة الوصفات الطبية التي يحتاجها هؤلاء المتقاعدين شهرياً، ليضاف إلى كل ذلك أساليب النهب والابتزاز والسرقة، سواء عبر أسعار الأدوية، أو عبر تكاليف الاستشفاء بشكل عام، اعتباراً من أجور معاينة الأطباء، مروراً بكلف التحاليل والتصوير، وليس انتهاء بتكاليف المشافي، مع عدم إغفال كل منغصات الحياة العامة على المستوى المعيشي والخدمي، التي تساهم بتقصير العمر وزيادة الأمراض أيضاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
970
آخر تعديل على الأربعاء, 17 حزيران/يونيو 2020 10:15