الأزمات أعمق من أن تُحل عبر تغيير الوجوه
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

الأزمات أعمق من أن تُحل عبر تغيير الوجوه

أمام حالة الاستعصاء في مواجهة الأزمات المعيشية والخدمية المتلاحقة، وبظل تزايد الضغوط من كل حدب وصوب على المواطنين، وصولاً لدرجات أعلى من الاحتقان لديهم، جرى تغيير واستبدال رئيس الحكومة، في الوقت الذي يترقب فيه المواطنون تغييراً جدياً بالسياسات والأداء، بالحد الأدنى، وليس بالأشخاص.

فقد تزايدت الضغوط الاقتصادية المعاشية على غالبية المواطنين مؤخراً، وتفاقمت حالة الاستعصاء في مواجهة الأزمات القديمة المستجدة التي تبين الحكومة بمواجهتها أنها عاجزة عن تقديم الحلول لها، وهو أمر مفروغ منه ربما، فلطالما جرى التأكيد على أن الحل النهائي لكافة الأزمات المستعصية، بما في ذلك المالية والاقتصادية، هو حل سياسي بامتياز، وليس أي شيء آخر.

العجز عن امتصاص الاحتقان

التغيير في الوجوه على المستوى الحكومي، الكلي أو الجزئي، في أحسن أحواله خلال السنوات الماضية، ربما عمل على امتصاص بعض الاحتقان لدى المواطنين، وبشكل مؤقت، لكن ذلك ربما استنفذ إمكاناته ولم يعد كافياً في ظل تزايد الأزمات وتوالدها، وبظل تفاقم الضغوط وعوامل الاحتقان عند المواطنين، وثبوت حالة العجز شبه التام على مستوى الأداء الحكومي المحكوم بالسياسات الليبرالية وتبعاتها منذ عقود، وبروز ما وصلت إليه الدولة عموماً من مظاهر ضعف جرّاء مصادرتها مع إمكاناتها من قبل حفنة فاسدة ومتسلطة متحكمة بها وبمقدراتها، توافقاً مع تلك السياسات ولمصلحة المستفيدين منها.
فالسوريون الذين أُنهكوا خلال السنوات الماضية تشرداً ونزوحاً، وواجهوا تحديات البقاء على كافة المستويات، فقراً وجوعاً ومرضاً، ودفعوا ضريبة الحرب والأزمة ومفرزاتها على أيدي أمراء الحرب وتجار الأزمة، مع تدمير بيوتهم كلياً أو جزئياً، وفقدان ممتلكاتهم نهباً وتعفيشاً، كما ذاقوا الأمرين من السياسات الليبرالية المتبعة على أيدي حيتان المال والفساد، تزايدت لديهم درجات الاحتقان مجدداً وبشكل كبير، وخاصة بعد توسع وتعمق التردي الخدمي والمعيشي، وصولاً لمستويات مرتفعة من الفاقة والعوز والفقر الغذائي والجوع والمرض، بالتوازي مع توسع وتفاقم وتعمق الكثير من الظواهر السلبية (المخدرات- الدعارة- التسول- السلب- القتل- الانتحار- الخطف..) في الوقت الذي ظهرت فيه الحكومة عاجزة عن حل أية مشكلة أو أزمة يعاني منها المواطن، من أبسط المشاكل والأزمات التي يعاني منها إلى أعقدها، وربما لا داعي للتذكير بالمشاكل والأزمات المتراكمة والمتراكبة، فقد أصبحت أكثر بكثير من أن تُعد، اعتباراً من الأجور والقيمة الشرائية لليرة بمقابل الأسعار، مروراً بالمحروقات والمشتقات النفطية، وليس انتهاء بالإنتاج الزراعي والصناعي، وأخيراً أزمة سعر الصرف ونتائجها الكارثية، وهذا الاحتقان المتزايد يبدو من الصعوبة أن يتم التمكن من امتصاصه عبر أشكال التغيير والتدوير الشكلية المتبعة.

التغيير الشكلي والرد التهكمي

السوريون المضغوطون والمحتقنون منذ سنين، وبرغم طغيان حديثهم اليومي عن الأسعار والواقع المعيشي والخدمي الذي يزداد تردياً، إلا أن ذلك لم يمنع الحديث بالعمق عن أنهم معنيين بالتغيير الجذري والشامل والعميق، الذي ينعكس إيجاباً على حياتهم ومعاشهم ومستقبلهم، أكثر بكثير من التغيير الشكلي المتمثل بتغيير بعض الأشخاص واستبدالهم بآخرين، كما جرت العادة على مستوى عمليات التدوير للوجوه.
فكل عمليات التدوير السابقة لم تسفر عن النتائج التغييرية المطلوبة، بل زادت من تفاقم المشكلات والأزمات وعمقتها، لذلك ربما أصبح التعاطي مع مثل هذه العمليات أكثر برودة، وتزايد بمقابلها عدم الاكتراث واللامبالاة، مع عدم تغييب تزايد أشكال التعبير الرافضة لها أيضاً، والتي يغلب على بعضها الطابع التهكمي.

بعد الغليان وقبل الانفجار

ما فاقم من عوامل الاحتقان لدى المواطنين خلال السنين الماضية، والمستمر حتى الآن، هو تتويج كل الأزمات والمشاكل بالمزيد من عوامل النهب والفساد، بذريعة الأزمة والعقوبات والحصار، على حساب المعيشة والخدمات وعدم الاستقرار، مع استمرار انخفاض عوامل الأمان أيضاً.
ومع التمهيد، الرسمي وغير الرسمي، عن المزيد من الضغوط مع البدء بتطبيق قانون قيصر الجديد خلال الأيام القريبة القادمة، بالتوازي مع ارتفاعات الأسعار المقترنة والناتجة عن التلاعب مجدداً بسعر الليرة وتجميع وتهريب القطع الأجنبي، تزايدت عوامل الضغط على المواطنين بدرجات أعلى مما سبق بكثير، مع علمهم ومعرفتهم المسبقة أن العقوبات التي يجري الحديث عنها والتمهيد لها ولتداعياتها لن تكون إلا فرصة للطغمة المتحكمة نفوذاً وفساداً من أجل جني المزيد من الأرباح في جيبوها على حساب الغالبية المفقرة وعلى حساب البلد مجدداً، وعوامل الضغط هذه أوصلت المواطنين لدرجات أعلى وأعلى من الاحتقان، ربما تجاوزت مرحلة الغليان، لكنها ما زالت قبل الانفجار، مع تسجيل الكثير من مقدماته، طبعاً مع أفقه المفتوح على كافة الاحتمالات مجدداً، بما في ذلك السلبية منها، والتي لا تحمد عقباها من دون أدنى شك.

ملفات ضاغطة إضافية

الضغوط التي يعيشها السوريون ليست نتيجة الواقع الاقتصادي والتردي المعيشي، أو نتيجة التراجع والترهل الخدمي، وغيرها من العناوين المذكورة أعلاه فقط، بل هناك عناوين وملفات هامة أخرى يتداول السوريون الحديث عنها، وهي تضغط عليهم وتنغص حياتهم وتزيد من احتقانهم، برغم تجاهلها رسمياً، أو بالحد الأدنى تأجيلها وتسويفها، بالإضافة لكونها تعتبر عوامل ضغط واستثمار سياسي يدفع بها نحو الأمام حيناً وتتراجع حيناً، بالتوازي وبما ينسجم مع مصالح القوى المؤثرة في الأزمة السورية عموماً، داخلاً وخارجاً، مثل: ملف اللاجئين، وملف المخطوفين والمفقودين والمعتقلين، وملف إعادة الإعمار، وملف التعويضات، وغيرها من الملفات المؤجلة الأخرى، والتي تعتبر متشابكة ومرتبطة فيما بينها مع بقية الملفات الاقتصادية والمعيشية والخدمية و..، مع كل ما تفرزه من أزمات وصعوبات وكوارث مستمرة يدفع ضربتها السوريون، والتي لا تنفع معها وصفات التغيير الشكلية، أو عمليات استبدال الوجوه، وبحيث يصح القول بشأنها: إن الحل النهائي لها هو حل سياسي بامتياز، وطبعاً ذلك لن يكون بمعزل عن الأزمة الوطنية الشاملة التي ينتظر السوريون الحل السياسي الناجز الخاص بشأنها وفقاً للقرار 2254 على أحر من الجمر، فاتحاً الطريق للتغيير الجذري والعميق والشامل المطلوب وطنياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
970
آخر تعديل على الأربعاء, 17 حزيران/يونيو 2020 10:12