الإنتاج الزراعي للكفاية أم للنهب؟
تتكرر بعض العبارات المرتبطة بالزراعة والإنتاج الزراعي، مثل: «يعتبر القطاع الزراعي من أهم القطاعات الاقتصادية، وله دور رئيسي على مستوى الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي الوطني»، وذلك من خلال التصريحات الرسمية، أو عبر التغطيات الإعلامية، وطبعاً في متن الدراسات الخاصة بهذا القطاع، سواء كانت رسمية أو غير رسمية.
لكن أين أصبحت هذه الأهمية، وماذا حل بالاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي؟.
وما هو حال هذا القطاع بظل السياسات الزراعية المُقرة، من ضمن جملة السياسات الاقتصادية المتبعة؟.
على شفير المجاعة.. سورية ضمناً
أفاد التقرير العالمي حول الأزمات الغذائية للعام 2020، والذي أصدرته الأمم المتحدة بتاريخ 21/4/2020، أن: «نحو 135 مليون شخص في 55 بلداً طالتها النزاعات ومشاكل المناخ كانوا على شفير المجاعة العام 2019».. «قد يعاني 265 مليون شخص في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل من انعدام الأمن الغذائي الحاد بحلول نهاية عام 2020».
قال ديفيد بيزلي، المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، خلال حديثه عبر الفيديو لمجلس الأمن عن برامج المساعدات الغذائية بنفس التاريخ أعلاه: «إن العالم لا يواجه جائحة صحية عالمية فحسب، بل يواجه أيضا كارثة إنسانية عالمية»، ويضيف: «يُظهر تحليلنا أن 300 ألف شخص يمكن أن يموتوا جوعاً كل يوم على مدى ثلاثة أشهر. هذا لا يشمل زيادة معدلات الجوع جراء انتشار كوفيد-19».
وقد ذكر التقرير: أن بين الدول الأكثر تضرراً من هذه الآفة (الجوع): جنوب السودان واليمن وأفغانستان، وهايتي، وفنزويلا، وإثيوبيا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والسودان، والشطر الشمالي من نيجيريا، إضافة إلى سورية.
الواقع أكثر فجاجة
الحديث عن الجوع وانعدام الأمن الغذائي بموجب تقارير دولية ليس جديداً، وكذلك أن ترد سورية من ضمن الدول المذكورة في مثل هذه التقارير على أنها عرضة للمزيد من الانخفاض في مستويات الأمن الغذائي ليس جديداً أيضاً، فقد سبق أن ذُكرت في كثير من التقارير الدولية السابقة، ولعل الواقع المعاش والملموس أهم وأوضح وأكثر فجاجة من كل التقارير، بغض النظر عن مصدرها.
فالفقراء يتزايد عددهم يوماً بعد آخر، وكذلك أعداد الجائعين، فقد تقلصت سلة الاستهلاك الغذائي اليومي للغالبية من السوريين بشكل كبير خلال السنوات الماضية، حتى شمل التقليص مؤخراً الكثير من الخضار ومن المنتجات الزراعية الأخرى، بسب ارتفاع أسعارها الكبير، علماً أنها إنتاج محلي.
فأين اكتفاءنا الذاتي، وأين أمننا الغذائي الوطني، الذي يطنبون آذاننا به بين الحين والآخر؟.
تراجع مستمر
تراجع قطاع الإنتاج الزراعي، بشقيه النباتي والحيواني، بشكل كبير خلال العقود الماضية، نتيجة جملة السياسات الاقتصادية الليبرالية ومن ضمنها السياسات الزراعية، والتي ترافقت مع التراجع المطّرد لدور الدولة على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، تحت عناوين الانفتاح وحرية السوق وتأليه آليات العرض والطلب، والتي دفع ضريبتها الغالبية من السوريين، لتأتي سني الحرب والأزمة لتزيد الطين بلة بانعكاساتها السلبية على هذا القطاع، وبالتالي على عموم السوريين، فقد خرجت الكثير من الأراضي من العملية الإنتاجية، وخسر القطاع الكثير من العاملين فيه، بالإضافة لتراجع الصناعات العاملة على هذا الإنتاج كمدخلات أولية، غذائية وتحويلية، أيضاً.
ولعل ما جرى ويجري من ارتفاعات مستمرة بأسعار المنتجات الزراعية، بشقيها النباتي والحيواني، في السوق، يعتبر دليلاً على فشل السياسات الزراعية خصوصاً، ومجمل السياسات الاقتصادية عموماً، علماً أن هذه الارتفاعات لا تستفيد منها إلا شريحة كبار التجار والسماسرة والمصدرين والمستوردين والمهربين، على حساب المنتجين والمستهلكين، بل وعلى حساب «الدعم» أيضاً، والذي تستفيد منه نفس الشريحة ولا يصب بمصلحة المنتج والمستهلك لا من قريب ولا من بعيد.
أمثلة كارثية مكررة
موسم الحمضيات السنوي مثلاً، ما زال يعاني من نفس الصعوبات المزمنة، وما زالت الحلول الترقيعية والتسويفية هي سيدة الموقف بشأنه، حاله كحال بقية المواسم المنهوبة عملياً، والنتيجة خسائر متتالية من جيوب الفلاحين وعلى حساب معيشتهم، مع قطع المزيد من الأشجار، وخروج المزيد من الأراضي الزراعية من الخدمة، بالإضافة إلى تراجع الاكتفاء الذاتي، وضرب الأمن الغذائي.
المثال الآخر الكارثي والمتكرر هو ما أصاب ويصيب قطاع الدواجن بين الحين والآخر من نكسات وتراجع وتوقف، بل وخروج العديد من منشآته من الخدمة تباعاً، والسبب الرئيسي أيضاً أن مدخلات إنتاجه متحكم بها من قبل شريحة كبار التجار والمستوردين، وكذلك حلقات تسويق وتوزيع وبيع إنتاجه متحكم بها، طبعاً بغض النظر عن حاجات الاستهلاك المحلي، فالاستغلال من قبل هذه الشريحة يطال المستهلكين بشكل أكبر أيضاً.
أما النتيجة الأهم والأكثر كارثية فهي أن قطاع الإنتاج الزراعي في سورية لا يرتبط فقط بغذاء المواطنين، على أهميته، بل بالكثير من الصناعات الزراعية القائمة على إنتاجه، والتي نالها التراجع والتوقف هي الأخرى، بل وتمنعها السياسات القائمة من التطور والتوسع أيضاً.
تعزيز آليات النهب
التراجع المطّرد لدور الدولة، بالتوازي مع السياسات المتبعة، وخاصة على مستوى سحب الدعم عن مدخلات الإنتاج (محروقات- أسمدة- مبيدات..)، وعلى مستوى التسويق والتوزيع، أطلقت آليات النهب وعززت مواقعها، على حساب المنتجين والمستهلكين.
فقد سيطر كبار التجار والسماسرة على حلقات العملية الإنتاجية، مستنزفين الفلاحين حتى الرمق الأخير، ومتحكمين بالأسواق وبالمستهلكين وبأسواق التصدير، مع إدخال الكثير من المنتجات الزراعية، نباتي وحيواني، المنافسة للمنتجات المحلية، بغاية تقويض الإنتاج الزراعي بمجمله بالنهاية، مع صناعاته التكاملية، كي يخلو السوق لهذه الشريحة الناهبة، التي لا يعنيها لا اكتفاء ذاتي ولا جوع ولا أمن غذائي، ولا إنتاج ولا صناعة ولا وطن.
النهب وتكاليف الإنتاج والتسعير والتسويق
آليات النهب تعمل بداية من خلال مدخلات العملية الإنتاجية، فمن المعروف أن تكاليف الإنتاج الزراعي، بشقه النباتي، يمكن تقسيمها إلى قسمين:
الأول: يتعلق بمستلزمات الإنتاج ومواده، ويتضمن: (قيمة السماد العضوي- قيمة السماد الكيماوي- قيمة العبوات- قيمة البذار- قيمة مياه الري- قيمة مواد المكافحة- قيمة المحروقات)، وهذا الشق مُتحكم بغالبيته، ناحية السعر والمواصفة والكم، من قبل شريحة المستوردين، حيث يفرضون أسعارهم الاحتكارية على هذه المستلزمات، خاصة أن الدور التدخلي للدولة بهذا الشق على أنه «دعم» أصبح محدوداً وخجولاً، بل حتى ما توفره من هذه المستلزمات يتم تأمينه عملياً من قبل هؤلاء التجار والمستوردين أنفسهم، مع عدم تغييب أوجه الفساد والمحسوبية في توزيع الكم الخجول منها على الفلاحين أيضاً، وبالتالي فإن كتلة هذا الشق من التكاليف من المتعذر تخفيضها وتقليصها على الفلاحين، اللهم باستثناء (الكم والنوع)، الذي ينعكس على الإنتاج بالمحصلة أيضاً كماً ونوعاً.
الثاني: يتعلق بالعمليات الزراعية، وتتضمن: (الحراثة- التسكيب- الزراعة «نثر البذار»- التسميد- أجور السقاية- العزق والتعشيب- المكافحة- الحصاد- الفرز والتعبئة- النقل)، وهذا الشق أيضاً من الصعوبة تخفيض تكاليفه أو تقليصها، برغم أن جزءاً منه يقوم به الفلاح بنفسه مع أفراد أسرته، والبقية تحتاج للعمالة الزراعية، التي تعتبر أجورها منخفضة ومقلصة سلفاً.
يضاف إلى ذلك بعض التكاليف الإضافية مثل: (بدل إيجار الأرض أو ريعها، وفوائد رأس المال الموظف، وبعض النفقات النثرية الأخرى).
مجمل هذه التكاليف تعتبر المعيار الأساسي في تحديد سعر المنتج الزراعي بالنتيجة، وغالباً ما يضطر الفلاح للتخلي عن هامش ربحه، من خلال الضغوط الاستغلالية الممارسة عليه من قبل تجار سوق الهال، أو الضمانة والمصدرين، وذلك يعتبر مصدر نهب إضافي تستفيد منه هذه الشريحة.
لتأتي بعد ذلك حلقة التسويق والتوزيع التي يتحكم بها كبار التجار عملياً، وصولاً للبيع في الأسواق للمستهلكين، بعد إضافة هوامش الربح على هذه الحلقات طبعاً، والتي تعتبر مصدر نهب أيضاً، والذي تستفيد منه نفس الشريحة الناهبة، وما على المستهلكين إلا الرضوخ للأسعار النهائية في الأسواق، بغض النظر عن كل ما يقال عن دور الجهات الحكومية على مستوى التسعير والرقابة، وما إلى ذلك من أحاديث رسمية ذات طابع خُلّبي ونظري عملياً.
بيانات وإحصاءات رسمية
فيما يلي بعض الجداول التي جرى إعدادها من واقع بيانات المجموعة الإحصائية الزراعية عن عام 2018، الصادرة عن وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، والمقترنة بموافقة المكتب المركزي للإحصاء المؤرخة في 21/8/2019، من موقع الوزارة، لتسليط الضوء على بعض متغيرات تقلص المساحات الزراعية وتراجع الإنتاج.
استعادة دور الدولة ضرورة وطنية
بعيداً عن الخوض في الكثير من التفصيلات الأخرى، فإن الضرورة الوطنية تفرض إعادة تدخل الدولة بعمق هذا القطاع الهام، وبشكل أكثر فاعلية وجدية، وبما يؤدي إلى دعم المنتجين وحماية المستهلكين فعلاً، وصولاً لإعادة الاعتبار لمفهوم الأمن الغذائي، والاكتفاء الذاتي.
ولعل ذلك يبدأ من خلال رسم السياسات الزراعية المتكاملة بشقيها النباتي والحيواني ودعمها، بالتوازي مع دعم الصناعات القائمة على الإنتاج الزراعي، وبما يؤمن طبعاً حسن استخدام الموارد الطبيعية (الأرض- المياه) والاقتصادية (المالية والبشرية)، مع وضع أسس سعرية وتسعيرية تحقق غايات الدعم الوظيفية، وبما يؤدي الى زيادة الإنتاج، وبالتالي زيادة معدلات نمو الإنتاج الزراعي للانتقال من حيّز الاكتفاء الذاتي إلى تحقيق الوفرة الفعلية القابلة للتصدير.
نقاط مفتاحية لتعزيز دور الدولة
بكل اختصار يمكن القول: إن السياسات الزراعية المتبعة قائمة على النهب والفساد واستمرارهما، حالها كحال مجمل السياسات الاقتصادية المعمول بها منذ عقود، والتي زادت آثارها ونتائجها السلبية على الوطن والمواطن خلال سنوات الحرب والأزمة، وبسببها.
ومن أجل وقف تراجع القطاع الزراعي، وزيادة وزن الدولة ودورها بعمقه، فإن ذلك ربما يتطلب التالي:
وضع سياسات زراعية متكاملة، تضمن تحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي.
زيادة الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني وتوسيعه، مع تقديم الدعم اللازم له.
منع أوجه وأشكال النهب والفساد، واعتماد سياسات سعرية وتسويقية وتمويلية مرنة، تحقق مصلحة المنتج والمستهلك.
توفير الآلات والمعدات الزراعية (جرارات- حصادات- محاريث- مضخات مياه- مرشات..)، مع تسهيلات مالية مصرفية للحصول عليها.
توفير مستلزمات الإنتاج، وخاصة (الأسمدة- البذار- المبيدات- المحروقات..) من قبل الدولة، بالسعر المناسب والوقت المناسب.
حسن استخدام مصادر الطبيعة الخاصة بالإنتاج الزراعي (الأراضي الزراعية- المياه..)، وضمان استدامتها.
تشجيع استخدام تقانات الري الحديث وتوسيعها.
حسن استخدام الدورات الزراعية المرتبطة بالتنوع المناخي الذي تمتاز به سورية.
حسن استخدام وتوظيف معايير المساحة مع كم الإنتاج، بين المروي والبعل، بعد دراسة نوعية التربة وما يناسبها من محاصيل، وما تحتاجه من أسمدة، بما يؤدي لزيادة الإنتاج وتخفيض التكلفة.
الاهتمام بالمنتجات الزراعية التي تحقق قيمة مضافة من خلال الصناعات الزراعية، مع دعم وتعزيز وتوسيع هذه الصناعات، نظراً لأهمية هذا القطاع الصناعي على المستوى الوطني أيضاً.
الاهتمام بمعايير المنتجات ومواصفاتها التصديرية، من أجل استقطاب المزيد من أسواق التصدير.
منع التهريب، دخولاً وخروجاً، بشكل جدّي وحقيقي.
إعادة الاهتمام بمشاريع استصلاح الأراضي.
زيادة الاهتمام بالبحوث العلمية الزراعية، وحسن توظيفها واستخدامها.
ومن المؤكد أن هناك الكثير من النقاط الهامة الأخرى أيضاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 965