وَأْدِ الزراعة والإنتاج الزراعي- الصناعي
حددت لجنة السياسات والبرامج الاقتصادية في الحكومة بتاريخ 11/7/2019 «مهلة ثلاثة أشهر للجهات المعنية من أجل اتخاذ قرار نهائي فيما يتعلق بمحصول «الشوندر السكري»، لناحية استبدال زراعته بزراعات أخرى أكثر جدوى، وذلك بعد القيام بدراسة شاملة حول واقع هذا المحصول من «زراعة، وتسويق وتصنيع»، وزيارة مزارعي هذه الزراعة والوقوف على ما يحتاجونه من دعم في حال تم إقرار استبدال هذه الزراعة».
تقلصت المساحات المزروعة بهذا المحصول بشكل كبير، وصولاً للحلقة الأخيرة من مسلسل وَأْدِهِ، بعد حلقات تم فرضها خلال السنوات الماضية، أثبت خلالها مؤلفو السيناريو ومخرجوه أنهم جديرون بحمل لقب سحق الإنتاج الوطني والمواطن.
أما الملفت في عبارة وَأْدِ محصول الشوندر المبطنة أعلاه، فهو الحرص الحكومي على الزراعات «الأكثر جدوى» والوقوف على ما يحتاجه المزارعون من دعم «في حال إقرار استبدال هذه الزراعة»، أي: أنه في حال الرغبة بالاستمرار بهذه الزراعة فلا دعم ولا من يحزنون، وسيبقى الحال على ما هو عليه!.
والسؤال الذي يفرض نفسه: أما كان من الأجدى دعم المزارعين بهذا المحصول الإستراتيجي قبل الوصول لِوَأْدِه؟.
لماذا إستراتيجي؟
مشكلة محصول الشوندر السكري ليست جديدة، وقد تفاقمت خلال السنوات الأخيرة، وصولاً لاعتبارها أزمة وكأنها تعني الفلاح فقط، وحلها يكون عِبر الإقرار باستبداله بزراعات أخرى، علماً أن الصعوبات التي يعاني منها الفلاحون طيلة عقود جزء كبير منها مفتعل ومقصود، وخاصة على مستوى تأمين وتوفير مستلزمات الإنتاج وتكاليفها المرتفعة، من سماد وبذار ومحروقات ومبيدات وغيرها، والتي أصبحت حِكراً بأيدي التجار والسماسرة بنتيجة جملة السياسات الليبرالية المتبعة، بالإضافة إلى اليد العاملة في الحراثة والقلع، وصعوبات نقل المحاصيل وأجورها، لتضاف إليها المعاناة جرّاء الأحوال الجوية من جفاف أو رطوبة وبرد، خاصة وأن محصول الشوندر يعتبر من المحاصيل طويلة الأجل في الحصاد، فدورته الزراعية تتراوح بين 8-11 شهراً، لذلك فإن الحرص على مصلحة المزارعين وحقوقهم هامة، ليس على مستوى منع وقوعهم بالخسائر فقط، بل على مستوى ما يجب أن يحققوه من ريع وربح مناسب من أرضهم وزراعتهم، تكفيهم شرور الفاقة، فغالباً لا يتمكن هؤلاء من زراعة محصول آخر في أراضيهم.
والحديث عن الشوندر السكري كمحصول منفرد بعيداً عن الحديث عن ملحقاته فيه الكثير من التبسيط، كونه المحصول الوحيد المرتبط باستخراج وإنتاج السكر في سورية، والذي أُحدثِت من أجله العديد من المصانع (تل سلحب- مسكنة- جسر الشغور- الرقة- دير الزور)، بالإضافة إلى استخدام «المولاس» الناتج عن هذه الصناعة في صناعة الخميرة الطرية الداخلة في إنتاج رغيف الخبز، مع عدم إغفال صناعة إنتاج الكحول أيضاً، بالإضافة إلى بعض النواتج الأخرى التي تدخل في صناعة العلف الحيواني، وكل ذلك له مصانعه أيضاً، وعلى الطرف الآخر فإن سلسلة الإنتاج هذه تؤمن الكثير من فرص العمل التي تعتبر مصدر رزق للكثير من العاملين بهذه الحلقات.
على ذلك، من الطبيعي أن يكون محصول الشوندر إستراتيجياً، باعتباره حلقة أولى رئيسة ضمن سلاسل إنتاج وتصنيع أخرى، وتوقف هذه الحلقة، يعني بالمحصلة توقف كامل السلسلة، ولكم أن تتخيلوا حجم الضرر الناجم عن ذلك، ليس على مستوى العاملين بهذه الحلقات فقط، بل على مستوى الاقتصاد الوطني ككل، ولا ندري أين يمكن أن تقع عبارة «أكثر جدوى» الحكومية أعلاه ضمن هذا السياق؟!.
تنافس بالإنتاج من الممكن استعادته
كان هناك تنافس فيما بين مناطق زراعة هذا المحصول على كم الإنتاج فيها، والذي وصل في أحد الأعوام للاضطرار إلى تخفيض المساحات المخططة لزراعته، من أجل تخفيض كم الإنتاج النهائي منه.
فقد ورد في صفحة «الإعلام الزراعي في سورية» التابعة لوزارة الزراعة بتاريخ 23/2/2015: «كانت محافظة حماة قبل عشر سنوات تتنافس مع المحافظات الشرقية (الرقة- دير الزور) للحصول على أعلى حصة من خطة زراعة الشوندر في سورية، وقد وصلت المساحات المزروعة في المحافظة وقتها إلى ما يتراوح بين /10000-12000/ هكتار وبلغت كميات الإنتاج /500000-600000/ طن وتعادل هذه الكمية /50%-60%/ من إجمالي إنتاج سورية.. ونتيجة هذا التنافس تم تخفيض خطة المحافظة إلى /9000/ هكتار.. لكن مساحات الشوندر انخفضت بشكل حاد خلال سنوات الأزمة إلى أن وصلت إلى /1602/ هكتار بالموسم الماضي نتج عنها /42387/ طناً وتم تقليص مدة الدورة التصنيعية في شركة سكر تل سلحب من 90 يوماً إلى 18 يوماً.. إن إحجام الفلاحين عن زراعة محصول الشوندر له مسوغاته المنطقية، إذ من غير العادي أن يقبل الفلاح بزراعة محصول لا يحقق له ريعية اقتصادية مقبولة، وتوقف زراعة الشوندر لا تعني فقط توقف تصنيع السكر الأبيض في شركة سكر تل سلحب، الوحيدة المستمرة بالعمل، بل يترتب على هذا التوقف فيما لو حصل فقدان دخل بمئات الملايين من الليرات لليد العاملة.. وهذا يستدعي معالجة سريعة للأسباب التي أدت إلى هذا الانخفاض الحاد بالمساحات المزروعة بالشوندر».
لكن على ما يبدو أن القائمين على تنفيذ وتطبيق السياسات الليبرالية باتوا على عجلة من أمرهم، من أجل طي الصفحة الأخيرة على هذا المحصول، خاصة بعد استعادة سيطرة الدولة على الكثير من الأراضي الزراعية التي كانت توضع ضمن مخططات زراعة المحصول، بالإضافة إلى موسم الأمطار الذي كان واعداً هذا العام، أي: أن امكانية استعادة هذا الكم من الإنتاج موجودة وتحتاج إلى تذليل المعيقات التي تحول دونها، وبقي أن تستعيد الخارطة الزراعية مكانتها، ليس على مستوى المساحات المخططة، بل على مستوى تأمين مستلزمات تنفيذها، وهو دور وواجب حكومي افتراضاً.
الخلافات وتقاذف المسؤوليات تغطية
المحصول الإستراتيجي، بحسب أدبيات الاقتصاد السوري تاريخياً، أصبح في النزع الأخير، بنتيجة تطبيق وصفات السياسات الليبرالية، وصولاً لمنح مهلة ثلاثة أشهر لاستبدال هذا المحصول بزراعات «أكثر جدوى»!.
ولعل كل ما جرى خلال السنوات الماضية من تقاذف للمسؤوليات بين «الجهات المعنية» (الزراعة- الصناعة- هيئة تطوير الغاب- المؤسسة العامة للسكر- المؤسسة العامة للأعلاف- معامل التصنيع) حول كم الإنتاج وما يقابله من ساعات تشغيل للمصانع، وصولاً إلى بيع المحصول كعلف، وما ينجم بنتيجتها من خلافات، كانت تتلقفه الحكومة مع لجنة رسم سياساتها كتغطية وذريعة لقراراتها المتتالية، وصولاً إلى قرارها الأخير أعلاه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الضحية هو الفلاح والإنتاج الزراعي والصناعي، والاقتصاد الوطني أولاً وآخراً، والمستفيد من كل ذلك هم حيتان الاستيراد وكبار التجار والفاسدين، المستفيدين من جملة السياسات الليبرالية المتبعة.
فقد ورد عبر إحدى الصحف الرسمية بتاريخ 28/5/2019 أن مدير شركة سكر سلحب قال: «إن توقف المعمل طيلة السنوات الخمس الماضية لأمر مربك ومكلف، ومحاولة عودته إلى سكة التشغيل أمست بحاجة لعمليات صيانة واسعة، فكل التجهيزات متوقفة والمخابر والأحواض والأفران، وهذا يتطلب الكثير لعودتها للإنتاج، أما في حال تمت زراعة مساحات كبيرة وأبرم معنا المزارعون العقود الكافية لإنتاج كميات لتشغيل المعمل فهذا مصدر سعادة لنا ولوزارة الصناعة».
بالمقابل، نقلت الصحيفة عن مصدر في هيئة تطوير الغاب ما يلي: «إن زراعة محصول الشوندر بدأت تخرج تلقائياً من روزنامة المزارعين واهتماماتهم لعدة أسباب: يأتي في مقدمتها التسعير القليل وغير المجزي وبعيداً عن تحفيز الزارعين، بل هناك خسارة لمن يزرعه باعتباره محصولاً يحتاج إلى فترهِ طويلة لحين جنيه تمتد لحوالي تسعة أشهر، وطيلة هذه الفترة يحتاج إلى سقاية ومحروقات وأجور عمل».
لقب البطولة للسياسات الليبرالية
الشوندر هو المحصول الثالث ضمن المحاصيل الإستراتيجية في البلد بعد القمح والقطن، أما وقد وصل للحلقة الأخيرة من مسلسل وَأْدِه، فهذا يعني: أن المحصول التالي ربما سيكون القطن، ثم سيتبعه القمح لاحقاً من كلّ بد، خاصة وأن أجزاء مسلسلات هذه المحاصيل وصلت لخواتيمها أيضاً، في ظل الصعوبات التي تواجهها، الحقيقية والمفتعلة، مع عدم إغفال ما تتعرض له بقية المحاصيل الأخرى من صعوبات ومعيقات، مثل: الحمضيات والزيتون وغيرها.
ولم لا؟ طالما أنّ وَأْدِ هذه المحاصيل سيحقق المزيد من الأرباح في جيوب الكبار أعلاه من خلال الاعتماد أكثر وأكثر على عمليات تأمين احتياجاتنا منها عبر صفقات الاستيراد الكبيرة، وعبر المزيد من الارتهان والتبعية لتقلبات الأسواق الدولية وتجارتها، والدول القائمة عليها والمتحكمة بها.
فعلاً، يحق للسياسات الليبرالية والقائمين عليها أن يُتوجوا بلقب البطولة في سحق الإنتاج الزراعي والصناعي في البلد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 922