الوعي والأخلاق بمواجهة الحصار وأعداء الوطن!
اعتاد المواطنون على تقلّبات حركة الأسواق وتذبذبها، وموجات ارتفاعات الأسعار المتتالية على السلع والخدمات، كما اعتادوا سماع التبريرات والذرائع، الموضوعية وغيرها، الصادرة عن جهات رسمية أو غيرها، والتي لم تعد تنطلي عليهم، وتنعكس نتائجها سلباً على حياتهم ومعاشهم، بشكل تراجع متزايد بمعدلات الاستهلاك، وتدنٍّ مستمر بمستوى معيشتهم.
أزمة المحروقات المزمنة، والمتفاقمة مؤخراً، لم تكن إلا سبباً وذريعة إضافية لموجة ارتفاعات الأسعار الحالية، وما رافقها من تهويل عبر بث بعض الإشاعات، بغاية زيادة الطلب وتبرير التقلب والتفلت في الأسواق، لإبعاد الأنظار عن المتحكمين بها والمستفيدين منها داخلاً (بعض كبار التجار والمتنفذين والفاسدين وتجار الحرب والأزمة) وتقييد الاتهام وتوجيه الإدانة للحصار والعقوبات فقط لا غير، رغم مشروعية هذه الإدانة والاتهام.
تنبيه رسمي واعتراف
على هامش ذلك والانعكاسات السلبية الكبيرة على النشاط الاقتصادي في البلاد، وما رافقها من حديث الحصار والعقوبات، تم بث العديد من الإشاعات التهويلية التي تستهدف المستهلكين، كما جرى تبرير الكثير من الموبقات والممارسات السلبية بحقهم، أو التغطية عليها وتغييبها بالحد الأدنى بأسلوب يدعو للسخرية، كما ارتفعت مستويات التذمر والاستياء الشعبي من التراجع المستمر لدور الدولة في الكثير من مهامها وواجباتها.
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى ما نبهت إليه مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك في دمشق مؤخراً حول شائعات تخزين وتكديس المواد، حيث ورد على صفحتها الرسمية على «فيسبوك»: «تتناقل أوساط الشر والخبث المكائد للمجتمع السوري، وهذه المرة يستغل الأعداء الظروف التي نمر بها جميعاً ليمرروا البلبلة والفوضى من اشتداد الحصار وفقدان السلع التموينية والحاجات الأساسية، ودقّ مسامير الخوف والضعف في النفوس وكيان الدولة، حتى يركب المواطن موجة تخزين وتكديس المواد، وبالتالي فقدانها من السوق بلا مبرر.. ننّبه لخطورة هذه الشائعات الخطيرة التي في حال تصديقها ستخلق مزيداً من الأزمات وتلبي أجندات راسميها ومموليها، ونؤكد لكم أن ثقتنا كبيرة بمحاربتها، وتكاتفنا جميعاً بالوعي والأخلاق والإيمان بالوطن لنتجاوز هذه الظروف المرحلية، ونخرج أقوى من كل أكاذيبهم وريائهم المكشوف».
ربّما من الجيد أن يتم تسمية هؤلاء بالأعداء والمستغلين، وربطهم بالأجندات المرسومة ومموليها لتمرير البلبلة والفوضى وصولاً لـ«دق مسامير الخوف والضعف في النفوس وكيان الدولة»، ولا شك أن التنبيه أعلاه مبرر ومشروع وضروري.
ويبقى أن نسأل عن الدور الرسمي المقابل والمواجه للـ«أعداء» الذين «يستغلون الظروف» ليمرروا «البلبلة والفوضى»؟!
وهل يكفي بالمقابل أن نتحدث عن «الوعي والأخلاق والإيمان بالوطن لنتجاوز هذه الظروف المرحلية»؟
وهل يتم الاكتفاء بما يمكن أن تقوم به حماية المستهلك بوجه الحيتان الكبار؟ وكفى الله المؤمنين شر القتال!.
حيتان المتحكمين بالسوق
طيلة السنوات الماضية من عمر الحرب والأزمة لم تكن مشكلة المستهلكين مرتبطة بندرة المواد، بل بسعرها وبمواصفتها، بالمقارنة مع مستويات الدخول المنخفضة والمتراجعة، حيث تواصل معدلات الاستهلاك انخفاضها، ولم يعد بالإمكان التخفيض أكثر، فبالكاد يستطيع غالبية المواطنين تأمين ضروراتهم المعيشية اليومية، في ظل الاستمرار بسياسات تجميد الأجور والإنكار الرسمي لآثارها الكارثية، وعلى هذا الأساس ربما الحديث عن «موجة تخزين وتكديس المواد» في غير محلها، مهما بلغت الإشاعات، ولعل البيانات التي تتحدث عن مستويات الفقر المتدنية، ونسبة المعوزين دون معدلات الأمن الغذائي، أصبحت تفقأ العين.
إن الأسواق، العادية والسوداء، فيها كافة السلع والمواد والبضائع، والعرض فيها واسع ومتنوع وأعلى من الطلب غالباً، ورغم ذلك فإن قانون العرض والطلب لا يفعل فعله على مستوى تخفيض الأسعار وتحسين الجودة والمواصفة، كما يفترض وفقاً للتغني والتباهي به وبآلياته، فالتحكم السعري هو الطاغي، وقد ثبت أن أدوات المتحكمين الكبار في الأسواق هي الأقوى، ليس على مستوى قانون العرض والطلب فقط، بل على مستوى قوانين الرقابة والمتابعة وحماية المستهلك، والمحاسبة على المخالفات والموبقات، وهم على ذلك تجاوزا موضوعة السيطرة على السوق والتحكم بها، وانتقلوا لمرحلة أعلى من التحكم والسيطرة، بالتوازي مع التشدد بآليات الحصار والعقوبات المفروضة على سورية.
أعداء المواطن والوطن
هؤلاء المتحكمون من الحيتان الكبار، المتمثلون ببعض كبار التجار والفاسدين والمتنفذين وتجار الحرب والأزمة، بمختلف تلاوينهم ومسمياتهم ومواقعهم وارتباطاتهم، هم المستفيدون عملياً من الأزمات، الحقيقية والمفتعلة، ومن الإشاعات والتهويل بغاية زيادة الطلب، والتقلب في حركة الأسواق وتفلتها، وافتعال الفوضى والبلبلة على هامش الحصار والعقوبات، وما يليها من احتمالات سيئة وكثيرة على المواطنين ومقدرات الوطن، فهؤلاء هم أنفسهم مفتعلو بعض الأزمات ومضخموها ومستثمروها، حيث يجنون المزيد والمزيد من الأرباح على حساب المواطنين، سواء في السوق العادية أو السوداء، وهؤلاء أنفسهم أيضاً هم المستفيدون من إبعاد الأنظار عنهم لتوجيهها إلى الحصار والعقوبات وغيرها، مع عدم التقليل من نتائجها السلبية الكثيرة والعميقة طبعاً، علماً أنهم هم غالباً أدوات هذا الحصار داخلاً ومنفذوه، ارتباطاً مع الأجندات المرسومة والممولة، بما في ذلك إمكانية الاستثمار لحال الاستياء والتذمر الشعبي المحق.
وفي هذا السياق، ربما لا بدّ من القول: إن أخلاق المواطنين وإيمانهم بوطنهم ليست محطاً للتشكيك والمزاودة، كما أن زيادة وعيهم ليست كفيلة بكبح جماح هؤلاء والحد من إمكانات أدواتهم المتحكمة بالأسواق.
استهداف الدولة
هؤلاء الأعداء البعيدون عن الأخلاق والوطنية بطبيعة الحال، لا يعنيهم انكشافهم أو انكشاف كذبهم وريائهم، ولعل المواجهة معهم لا يمكن أن تقتصر على دور محدود لحماية المستهلك أو غيرها من الجهات الرسمية الأخرى، رغم أهمية هذه الأدوار، فهؤلاء لا تقتصر مهامهم على مستوى التحكم بالأسواق بمختلف تسمياتها فقط، بل لعلها وفقاً للأجندات المرسومة تتعدى ذلك وصولاً لـ«دق مسامير الخوف والضعف في النفوس وكيان الدولة»، وهو توصيف فيه الكثير من الدقة والصحة، خاصة وقد أصبح هؤلاء متحكمين بالكثير من مفاتيح الاقتصاد الوطني وبواباته.
وليس من المستغرب أن نربط أنشطة هؤلاء بالأنشطة التي تصب في نفس الخانة بالنتيجة، بما فيه على مستوى بعض الظواهر الهدامة اقتصادياً واجتماعياً، كالتهريب والمخدرات والدعارة وتجارة الأعضاء وتجارة السلاح وتمويل الإرهاب، وغيرها من الأنشطة الجرمية الكثيرة الأخرى.
فالدولة نفسها هي المستهدفة من هؤلاء بالإضافة إلى المواطن، وبالتالي فالمواجهة معهم بحاجة لأدوات ذات جدوى وفاعلية حقيقية، ليس من أجل كبح جماحهم وتعريتهم فقط، بل من أجل محاسبتهم على دورهم المعادي للمواطنين والدولة والوطن.
الليبرالية المتوحشة بوابة الموبقات
هؤلاء الأعداء ما كان لهم أن يتسع نشاطهم ويكبر دورهم ويستطيل داخلاً ارتباطاً بالخارج وأجنداته، لولا وجود بوابات وثغرات استطاعوا النفاذ منها واستغلالها، بالإضافة إلى ظروف الحرب والأزمة، حتى ما قبل سنوات الحرب والأزمة، اعتباراً من السياسات الليبرالية المعتمدة رسمياً، والبوابات المشرعة للاستغلال والتربح على حساب الوطن والمواطن منذ عقود، مروراً بالاستثناءات والمزايا والإعفاءات التي مُنحت لشريحة الأغنياء، ومن يمثلون، وبموجب الكثير من التشريعات والقوانين، بالإضافة إلى الممارسات الأخرى التي قوَّت هذه الشريحة بمختلف تلاوينها وارتباطاتها، بمقابل إضعاف بقية الشرائح في المجتمع والحد من دورها، وصولاً لإفقارها وتهميشها وتهشيمها، بما في ذلك دورها في النقد والتصويب والرقابة والمحاسبة، عبر أشكالها التنظيمية المختلفة ومنابرها.
فإذا كانت الدولة هي المستهدفة ككيانٍ ووحدةٍ في المرحلة الراهنة، فإنّ عليها أولاً وآخراً أن تقوم بما عليها على هذا المستوى.
ولعل ذلك يبدأ من مؤسستها التنفيذية الأهم والأكبر المتمثلة بالحكومة وجهاتها وأدواتها وأذرعها الفاعلة جميعاً، من أجل استعادة دور الدولة وتقويته مجدداً على كافة المستويات، فعلاً حقيقياً ممارساً على الأرض وليست أقوالاً ووعوداً خلبية، وبداية البداية تكون من خلال القطع مع السياسات الليبرالية المعتمدة التي باتت أكثر توحشاً على أيدي هؤلاء الأعداء المتلونين وحلفائهم وأدواتهم، الذين عمموا النهب والفساد والخراب، وصولاً للمزيد من إضعاف دور الدولة عسى يتمكنوا من ابتلاعها، وفقاً لأجندات أعداء الدولة والوطن والشعب، ناهيك عن نتائج هذه السياسات الوخيمة على مستوى الأجور والدعم والإنفاق على الخدمات العامة، وغيرها التي عززت تراجع دور الدولة تِباعاً، ليحل هؤلاء أو غيرهم محلها في بعض القطاعات، الكبيرة والصغيرة، السيادية وغير السيادية.
فالموضوع لم يعد تزاحماً على السوق، أو رفع أسعار واستغلال، أو احتكاراً وإشاعاتً، بل بوابة واسعة للموبقات، وقد آن لها أن تغلق قبل فوات الأوان!.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 910