حلب.. مشاكل القطاع الصحي لم تقتصر على «الخطأ الطبي»

حلب.. مشاكل القطاع الصحي لم تقتصر على «الخطأ الطبي»

يورد المواطنون في حلب، بالإضافة إلى بعض وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، الكثير من الأمثلة عمّا يسمى بالأخطاء الطبية، وعن حال تردي الخدمات وصولاً للترهل والفساد، الذي يعاني منه القطاع الصحي في المدينة، بشقيه العام والخاص، حيث أصبح المرض يشكل حالة رعب للمواطنين، بالإضافة إلى كونه مصدر معاناةٍ للمريض وذويه، ناهيك عن تكاليف الاستشفاء المرتفعة.

فالمرضى يضعون نفسهم بين أيدي الأطباء، أو المنشآت الطبية، وذلك بحثاً عن علاج يخفف معاناتهم، استناداً لثقة مفترضة مسبقاً بهؤلاء الأطباء، أو بهذه المنشآت، بالاعتماد على ما يفترض وجوده من علم وخبرة وسمعة، ولطبيعة المهنة بجوهرها الإنساني، في المقابل فإن واقع الحال يقول إن هذه الثقة اهتزت وتراجعت بشكل كبير مؤخراً نتيجة تضافر جملة من العوامل.
تراجع وترهل
تعرض القطاع الصحي في مدينة حلب، كما غيره من القطاعات الأخرى، وربما أكثر، للكثير من الأضرار، المباشرة وغير المباشرة، بنتيجة الحرب والأزمة طيلة السنوات الماضية، ما أدى إلى تراجع الخدمات الصحية بشكل كبير، ليتوج ذلك بعوامل الفساد والأخطاء الطبية، والانعكاس السلبي لكل ذلك على المستوى الصحي للمواطنين بالنتيجة.
أتى الضرر، المباشر وغير المباشر، على عناصر ومكونات هذا القطاع كافة، بشقيه العام والخاص، اعتباراً من المنشآت والتجهيزات والمستلزمات، مروراً بالبنى التحتية، وصولاً لنقص الكادرات من أطباء وممرضين ومتخصصين، لكن ما جعل من جملة هذه الأضرار أكثر سوءاً بالنسبة للمواطنين هو: تردي الخدمات والأخطاء الطبية، التي كان بعضها قاتلاً.
أخطاء قاتلة ولا مسؤولية
لعل حادثة وفاة أحد الأطفال في مشفى الرازي في حلب منذ عدة أشهر نتيجة «خطأ طبي» ما زالت ماثلة في أذهان الحلبيين، حيث تم إدخال الطفل إلى غرفة العمليات استناداً إلى التشخيص الذي أقر وجوب استئصال اللوزتين بعمل جراحي، وهو عمل جراحي بسيط، لكن المفاجأة كانت صاعقة لذوي الطفل عندما تم إبلاغهم بوفاة ابنهم، والسبب هو عدم تحمل الطفل لجرعة التخدير. مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الحالة الكارثية لم تكن الأولى، كما لن تكون الأخيرة على ما يبدو.
حادثة أخرى تداولتها صفحات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام منذ شهر تقريباً عن «أبي حسام» الذي يروي قصته مع شقيقته المريضة، التي تم إدخالها لأحد المشافي الخاصة من أجل تركيب مفصل صناعي، وذلك بعد تشخيص حالتها من قبل طبيبها المختص بالجراحة العظمية، حيث تم إجراء التحاليل الطبية للدم في المشفى، حسب ما تقتضيه الضرورة، وأدخلت غرفة العمليات، والصاعقة كانت بداية بخبر إصابة شقيقته بجلطة دموية أثناء العملية، والسبب المعلن له بحينها كان أنّ شقيقته كانت تتلقى علاجاً «بالكورتيزون»، وبأنها بغرفة الانعاش، لكن الحقيقة تبينت بعد ذلك بأن شقيقته أصبحت في براد المشفى، بعد أن فارقت الحياة منذ ساعات دون إعلام ذويها رغم سؤالهم المتكرر عنها للاطمئنان عن حالها!
يقول أبو حسام: عدم وجود طبيب قلبية أثناء العملية، وعدم تحضير المريضة للعملية وإخفاء حقيقة مصير أختي وعدم إخباري أنه في حال الخطأ ممكن حدوث جلطة، كلها أسباب جعلتني أشك بتقصير أطباء المشفى لذلك قدمت دعوى قضائية على المشفى والأطباء.
«محمد» روى لنا ما حصل أمامه في أحد المشافي، أثناء مراجعته لمدير هذه المشفى من أجل الموافقة على تصوير طبقي محوري، فقد سمع حديث طبيبين مع المدير، يتحدثون عن خطأ طبي جرى مع إحدى المريضات في المشفى، مع محاولة تجيير وتقاذف المسؤولية حيال هذا الخطأ. لم يعرف «محمد» ماهية الخطأ الذي يتم الحديث عنه، ولا ما آل إليه حال المريضة بالنتيجة، لكن اللافت بالنسبة إليه كان هو مجريات ونمط الحديث الذي لم يخلُ من الضحك، ما يشير إلى حال الاستهتار وتعارضه مع الإنسانية المفترض وجودها عند هؤلاء الأطباء ومسؤوليتهم تجاهها.
شهادات مؤلمة
أبو أحمد يقول: اضطررت لإدخال ابني لأحد المشافي العامة بحالة إسعافيه لإجراء عملية زائدة، وكان الوضع مؤلماً حقاً، فالنظافة منعدمة ورائحة الحمامات الكريهة القذرة، والصراصير تشاركك الفراش، والفرش على الجلد بدون شراشف وبدون مخدة، وحرام معونة سلم إلينا بموجب هوية، وملابس العملية مقرفة برائحتها ولونها، الحمامات والمغاسل تدعو للإقياء. كما تحدث عن سوء المعاملة ولامبالاة الممرضات في المشفى حيال احتياجات المرضى، من سيرومات وأدوية موصوفة، وعن شبهات فساد شاهدها على مستوى سحب جزء من مخصصات الأدوية والسيرومات للمرضى، والتذرّع باستهلاكها ليصار إلى وصف المزيد منها، مبدياً أسفه لما آلت إليه حال هذا المشفى من إهمال وتردٍّ وفساد.
«فاطمة» تقول: إنها اضطرت إلى أخذ أمها في حالة إسعافية لأحد المشافي، وبقسم الجراحة العامة، كان هناك ممرضون مستلقون على سريرين متقابلين يلهون بأجهزتهم الخليوية، ويقومون بزجر المرضى ومرافقيهم ما اضطرني في نهاية المطاف إلى إخراجها والذهاب بها إلى طبيب خاص.
الخاص ليس أرحم
ترهل ولا مسؤولية وفساد وأخطاء، يضاف إليها نقص الأجهزة الطبية والممارسات السيئة، كل ذلك يجعل من خدمات القطاع الصحي العام بموضع انعدام الثقة، ومع الترويج للقطاع الصحي الخاص يضطر بعض المواطنين للجوء إليه، لكن المفاجأة تكون أكبر، حيث لا اختلاف بالنتيجة، اللهم باستثناء ما يتكبده هؤلاء من نفقات كبيرة، مع الإشارة ربما إلى عامل النظافة والترتيب المتوفر في هذا القطاع بما لا يقاس مع القطاع العام.
فالخبرات الطبية والتجهيزات متشابهة بين القطاعين، بل ربما هي أفضل في العام، أما على مستوى بعض الأخطاء المرتبطة بالخبرة وتوفر الكادرات فهي نفسها من حيث النتيجة، ولعل ما يشفع للقطاع العام على هذا المستوى، مع عدم التبرير طبعاً على مستوى ما يسمى «أخطاء»، هو حجم الأعباء الملقاة عليه بالمقارنة مع القطاع الخاص، بل الأمر الأدهى هو أن منشآت القطاع الصحي الخاص لا تستقبل المرضى إلّا حسب ملاءتهم المالية، المترجمة بالدفعة النقدية المسبقة كتمهيد للموافقة على دخولهم لهذه المنشآت.
العامُّ موئل الفقراء
لا شك أن القطاع الصحي العام هو الموئل بالنسبة للغالبية من المواطنين، وخاصة محدودي الدخل والمفقرين، الباحثين عن العلاج والاستشفاء بأقل التكاليف الممكنة، وذلك بسبب الواقع المعيشي المتردي المعمم، إلّا أنّ ذلك لا يعني استلاب حق هؤلاء بالخدمة الجيدة والمعاملة الحسنة، بعيداً عن أوجه المحسوبية والفساد. ولعل تعليق بعض أسباب الترهل والتراجع والتردي في هذا القطاع على شماعة الحرب والأزمة، لم يعد يجدي نفعاً، بل لعل الحرب والأزمة ومفرزاتها، وخاصة على المستوى الاقتصادي والمعيشي، ونتائج ذلك على مستوى تدهور حال المواطنين الصحي وزيادة الأمراض والمرضى، مبررٌ كافٍ من أجل المزيد من الاهتمام بهذا القطاع، وإعادة تأهيله بما يتوافق مع متطلباته وضروراته والحاجة المتزايدة له، اعتباراً من البنى التحتية والتجهيزات، مروراً بالأطباء والمختصين والممرضين والممرضات، وصولاً للنظافة وحسن المعاملة، وليس انتهاء بالمتابعة والرقابة والمحاسبة.
الحلبيون، كما غيرهم من السوريين، تعبوا من الحرب ومفرزاتها اليومية التي ما زالت تستنزفهم، كما تعبوا من اللامبالاة بحقوقهم العامة والاستهتار بها، فكيف بالحقوق المتعلقة بصحتهم وبسلامتهم، خاصة وأن جميع هذه الحقوق مصانة افتراضاً، دستوراً وقانوناً.