المدرسة في مجتمع يتطلع إلى الحياة
تهدف سياسات التعليم لدينا حالياً إلى محاولة إظهار حداثتها وتغليب الطابع الديمقراطي عليها، فهل هذا اللبوس واقعي؟ وما المرامي التي تتخفّى وراء هذه السياسية التعليمية؟ هذا ما سنحاول البحث فيه في مقالنا:
سياسة التعليم الحالية
تُحدَّد سياسة التعليم وترسم فلسفته في القطاع الخاص أو العام بشكل العلاقات الاجتماعية ونمط الإنتاج. وبالأخذ بعين الاعتبار نمط الإنتاج الليبرالي الجديد القائم لدينا، فإن الوجه الديمقراطي الحديث الذي تحاول الحكومات المتعاقبة إسباغه على العملية التعليمية، يدحضه الواقع الذي يشهد على عملية ممنهجة وواعية لترسيخ الفوارق الاجتماعية والطبقية بشكلٍ متسارعٍ ويعبّر عن أزمة عميقة في المفهوم الوطني، لدى واضعي هذه السياسة، ومدارس (النخبة) خير مثال على ذلك؛ ولا يتعلق الأمر فيها بمجرد قرار بخصخصة التعليم، وبأسلوب تعليم يستهدف حفنةً من أبناء فئات معينة من المجتمع، يتم إعدادهم لقيادة المجتمع. وإنما تكمن خطورة مدراس النخبة هذه في تقسيم أدوار ومهام وأعمال كل فئة من طبقات المجتمع.
إن التعدد في التقسيم والتنوع التعليمي الدارج حالياً في المدارس، يضفي شكلاً ديمقراطياً على العملية التربوية والتعليمية، غير أن الديمقراطية تعني إتاحة الإمكانية المتساوية لكل فردٍ أن يتمتع بالقدرة على اكتساب المهارات والكفاءات، ليصبح (نخبةً) في مجتمعه. وبمتابعة لسياسة التعليم، نجد تضييقاً متزايداً لحقوق التساوي في التعليم، المكفولة في الدستور السوري، وهذا التضييق يتناسب باطراد مع التقسيمات الاجتماعية الفاقعة في مجتمعنا اليوم.
ورغم محاولة طرح شكلٍ جذاب على العملية التعليمية خصوصاً في القطاع الخاص منها، فإنه يجب لحظ الفارق بين ثقافة اللهو واللعب كأسلوب عصري متّبع حالياً في التعليم والتربية، وما ينجم عنه من إيقاع منفلت غير منضبط في مرحلة عمرية بالغة الأهمية في تبلور البنية النفسية والفكرية والأخلاقية، وعدم تشرّب أيّ شكل من أشكال العمل الجماعي، وبين التعليم الإبداعي الذي يحرص على أن يُكسب الإنسان في مراحله العمرية الأولى المنطقَ العلمي اللازم للتفكير السليم، والذي ينطلق من حقيقة لا يمكن التشكيك بها في أن التعلم أمرٌ لا يمكن أن يكون سهلاً.
أضف إلى أنه لا يمكن أن يكون القائمون على وضع السياسة التعليمية لدينا غافلين عن حقيقة أن عملية التعليم ليست ميكانيكيةً وحسب، بل إنها تتضمن في محتواها بُعداً تربوياً له أثر بالغ الأهمية في تشكيل وعي الإنسان اللاحق. ورغم ذلك لا يزال التعليم آلياً يفصل العلوم التي يتلقاها الإنسان عن مجتمعه في أفضل الأحوال. أما في أسوأ الأحوال فإنه يقوم بمغازلة القوى الكابحة لإطلاق الوعي، وإدخال مفاهيمها الماورائية ضمن المناهج الدراسية منذ المراحل الأولى من التعليم لإحلال وعيٍ بأمور مسلّم بإطلاقها، وخلق إمكانية توظيف التفكير الماورائي في إيجاد فوالق عمودية في المجتمع عند الحاجة. فكيف إن زاوَج بين أسوأ الأحوال وأفضلها؟! ويمكن القول: إن الهدف من ذلك هو تشكيل بنية فكرية لدى الطلبة لا تتمتع بالمنهجية العلمية اللازمة لتحليل الظواهر الطبيعية والاجتماعية والعلاقة بينها، بما يعني ذلك من تثبيط لقدرات المجتمع على أي فعل تغييري شامل وجذري في المستقبل.
كما أنه لا يمكن إغفال واقع غياب المنهجية العلمية عن الكوادر التدريسية، وهو ما يسبب فشلاً في صهر المواد العلمية المختلفة في بوتقة فكرية واحدة ومنسجمةـ هذا في حال وجودها بالأساس؛ إذ ظَلَّ أعضاء الهيئات التدريسية منتمين إلى بيئاتهم الاجتماعية ومتشربين لمفاهيم الليبرالية الجديدة تجاه الحياة.
وإذا كانت أشكال وقوالب التعليم التقليدي قد تجاوزها الزمن، فإن قوالب اليوم التعليمية اليوم عاجزة عن إيجاد إطار علمي ومنهجي موحد وغير عشوائي. ويظلّ من الإجحاف إنكار أن القوالب التعليمية التقليدية خالية مما يمكن الإفادة منه.
وجهة نظر في التعليم
في المراحل الأولى من التعليم، ينبغي تلقي العلوم الطبيعية والاجتماعية انطلاقاً من حقيقة وجود العالم الطبيعي بشكلٍ موضوعي مستقل عن وعي الإنسان، أما دور العلوم الاجتماعية فهو كمنظم لحياة البشر وعلاقتهم بالطبيعة وتطويعها. وتظلُّ المسألة بالغةَ الأهمية، كامنةً في ترسيخ وعي عفوي بالعلاقة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وهو ما تجاهلته جميع سياسات التعليم السابقة.
كما ينبغي طرح ضرورة تلقي الحقوق والواجبات في الدولة والمجتمع ضمن الإطار القانوني الذي بلغه التطور حالياً عِوضاً عن محاكاة حقوق وواجبات عصور سابقة.
ينبغي إذاً ألّا يُعنى بمجرد إخراج مخترعين وعباقرة إلى المجتمع، بقدر ما يُعنى بمنهج البحث والتعليم البعيد عن التمييز الطبقي. ويتطلب ذلك استعادة التعليم من قبضة الخصخصة التي تُحمّل الأسر تبعاتها الأخلاقية والاقتصادية، وإعادة الاعتبار للتعليم الذي تتحمل الدولة مسوؤليته، بما يعنيه ذلك من طرح مسائل ومنهجية علمية سليمة قادرة على الخوض في الصراع مع المفاهيم التقليدية الرجعية وعزلها، إضافةً إلى أنه عبر إتاحته الفرص المتساوية لتكوين الكفاءات لجميع فئات المجتمع، فإن بمقدوره لجم محاولات تحديد مصير الفئات المختلفة في المجتمع، وأعمالها ومواقعها في الهرم الاجتماعي بالشكل الذي يتناسب مع مصالح فئة ضئيلة من المجتمع ساعية لتسيّدها الدائم.
إضافة أخيرة إلى ما سبق:
إن تجاهل حقيقة أن شكل العلاقات الاجتماعية الحالية قد بات على شفا موته السريري، هو السبب الجوهري في مسألة تدني مستويات التعليم الحالية، غير أنه كذلك السبب الجوهري في التفاؤل بعدم دوام الحال.