صدر الحكم بوأد الكتاب الجامعي
هل ستشهد الأيام القادمة عملية وأدٍ رسمي للكتاب الجامعي؟ تساؤل أصبح أكثر مشروعية وجدية بعد التصريح الذي أدلى به وزير التعليم العالي في مجلس الشعب الأسبوع الماضي، والذي يمكن اعتباره تمهيداً لهذا الإجراء.
فقد قال وزير التعليم العالي، في معرض النقاش حول الموازنة الاستثمارية لوزارة التعليم العالي والجهات التابعة لها للعام 2019 في مجلس الشعب، وما أثير من قبل بعض أعضاء مجلس الشعب حول الانتباه لموضوع الكتاب الجامعي، موضحاً: «اللفظة المستخدمة بكلمة كتاب جامعي غير صحيحة، والمصطلح المناسب لها هو مرجع جامعي، والحل البديل لذلك هو أن تكون هذه المحاضرات مجهزة إلكترونياً بإمكان الطالب الحصول عليها من خلال الاتحاد الوطني لطلبة سورية، على أن تكون معتمدة من الكلية»، وذلك حسب ما ورد عبر الصفحة الرسمية لمجلس الشعب على «فيسبوك».
رصاصة الرحمة
توضيح الوزير أعلاه، ربما يمكن اعتباره رصاصة الرحمة الموجهة للكتاب الجامعي، بعد كمّ الملاحظات الكبيرة والكثيرة عليه طيلة السنوات الماضية، والمعاناة التي يتكبدها الطلاب سنوياً في التعامل مع الكتاب الجامعي، اعتباراً من توفره وإمكان اقتنائه، مروراً بمحتويات بعضه التي أصبحت قديمة ولا تتلاءم مع المستجدات العلمية والمعرفية الحديثة، وصولاً لإغفاله وعدم اعتماده من قبل بعض الأساتذة، ناهيك عما يجري أحياناً على مستوى اعتماد بعض أجزائه، أو الاختلاف بين محتويات الكتاب وما يقدمه الأستاذ المحاضر من معلومات خلال المحاضرات، بعضها يكون متعارضاً مع محتويات الكتاب، والأهم من ذلك كله هو: البدائل التي يعتمد عليها الكثير من الطلاب أثناء الدراسة وعمليات التحضير للتقدم للامتحانات، والتي يتزايد الاعتماد عليها في ظل جملة ما يتعرض له الكتاب الجامعي نفسه من صعوبات.
كما أن التوضيح أعلاه، أفسح المجال من الناحية العملية على الاعتماد على المحاضرات البديلة، وشرعن وجودها واستخدامها، بعد كل الحديث السابق عن إدانتها من خلال بعض الأساتذة أو عمادات بعض الكليات، وحتى من قبل الوزارة نفسها، لكنه بالمقابل رهن الموثوقية بهذه المحاضرات والاعتمادية لها من قبل الكليات، وبربطها بالاتحاد الوطني لطلبة سورية.
مشكلة معقدة ومركبة
لا شك أن الكتاب الجامعي يواجه مشكلة مركبة ومعقدة، أحد جوانبها هو ما تمثله على مستوى معاناة الطلاب، لكن لهذه المشكلة جوانب أخرى كثيرة لا يمكن إغفالها، وخاصة على مستوى التأليف والاعتمادية والمشاكل المتعلقة بهذا الباب على مستوى المؤلفين المؤهلين والمعتمدين، سواء فيما بينهم أو فيما بينهم وبين الأساتذة الجامعيين أو الوزارة، بالإضافة إلى التكاليف المتعلقة بعمليات الطباعة والتغليف وغيرها، مع عدم إغفال آليات التسويق والتوزيع، التي يجب ألّا تقتصر على الطلاب الجامعيين المعنيين، باعتبار أن الكتاب الجامعي كما هو معتمدٌ من قبل بعض الكليات، فإنه مرجعٌ لكليات وجامعات أخرى، داخلاً وخارجاً، ولعل الأهم هو: أن الكتاب الجامعي يعتبر أحد العوامل المهمة على مستوى تقييم الكليات والجامعات وترتيبها وفقاً للمعايير العلمية والعملية المعتمدة، سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الدولي.
على ذلك فإن مشكلة الكتاب الجامعي تعتبر مشكلة حقيقية وجدية وعميقة واجبة الحل، ليس كونها مرتبطة بالواقع الراهن فقط، بل لارتباطها بالمستقبل أيضاً، كون الطلاب الجامعيين، المعنيين بهذا الأمر أكثر من غيرهم، يمثلون هذا المستقبل بأفقه المفتوح.
الكتاب الجامعي والسياسة التعليمية
في جميع الأحوال، إن تسليط الضوء على أحد جوانب هذه المشكلة دون البقية، وصولاً لاعتبار الكتاب الجامعي، بحال توفره، مرجعاً فقط، لا يحل المشكلة بل ربما يزيدها تعقيداً وإرباكاً.
والتساؤل المشروع الذي يمكن تبويبه ضمن هذه الرؤية الجديدة حيال الكتاب الجامعي هو: هل سيتم تعديل السياسة التعليمية استناداً لهذه الرؤية والتوجه؟
فمفردة «مرجع» المرافقة لعبارة «الكتاب الجامعي» على لسان وزير التعليم العالي تعني فيما تعنيه: فسح المجال أمام الأساتذة لاعتماد مراجع أخرى، ما يعني أن سياسة التعليم من الآن فصاعداً ستعتمد على المراجع المفتوحة، وما يتطلبه ذلك على مستوى الكادر التدريسي في الجامعات من موسوعية وعلمية تفرضها سياسة التعليم المرتكزة على المراجع المفتوحة، وما يفرضه ذلك على مستوى المزيد من الاعتماد على الجهود الطلابية البحثية، وما يجب توافره لدى كل منهم من وسائل وأدوات مساعدة من أجل الحصول على المعلومة والأبحاث، والأهم هو: ما يجب أن يترافق مع هذا التوجه من تعديلات على مستوى المحاضرات وآلياتها وطرائق التدريس المتبعة، وما يجب أن يرتبط بذلك على مستوى العملية الامتحانية والتقييم والتقويم الطلابي، وربما على مستوى القبول الجامعي نفسه، وما يجب أن يسبقه على مستوى السياسات التعليمية في مراحل التعليم الأدنى (الأساسي والثانوي) كتمهيد لهذا القبول.
فهل نحن بصدد كل هذه التعديلات على مستوى التعليم الجامعي، والسياسات التعليمية جملة وتفصيلاً؟ أم أن العبارة التي أوردها الوزير بهذا الصدد لا تعدو كونها «حجراً في بئر»؟
الهروب من المشكلة
لا شك أن السياسات التعليمية بحاجة لإعادة النظر والتعديل عليها بما ينسجم مع متطلبات عمليات النمو والتنمية التي تفرضها الضرورات الحياتية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والتي يجب أن تحقق مصالح أوسع الشرائح الاجتماعية، وبما يتوافق مع أعلى المعايير العلمية الحديثة والمستجدات المتسارعة على هذا المستوى، وإلا فإنها ستسير نحو المزيد من التردي والتراجع، وهو ما نشهده عملياً، كون هذه السياسات تنحو باتجاه محاباة شريحة الأغنياء على حساب البقية الباقية من الشرائح الاجتماعية المفقرة، وعلى حساب الضرورات الحياتية الموضوعية.
فواقع الحال يقول: إن السياسات التعليمية المتبعة، حالها كحال جملة السياسات المعتمدة، تقف عاجزة أمام الاستحقاقات المطلوبة والمفروضة موضوعياً، وبالتالي ليس من المستغرب أن نشهد هذا التخبط بها، وبحيث يبدو الإجراء الأسهل من أجل معالجة مشكلة الكتاب الجامعي المتراكبة، على سبيل المثال، هو بالتخلص منه، ليصبح ضحية إضافية من ضحايا هذه السياسات.
السمعة المهدورة
ربما تجدر الإشارة إلى أن الكتاب الجامعي السوري كان فيما مضى، وحتى وقت قريب، يعتبر من المراجع العلمية المعتمدة من قبل الكثير من الجامعات والمراكز البحثية الإقليمية والدولية، وذلك لما فيه من معلومات علمية قَيّمة مُصاغة بأسلوب علمي معرفي سلس، ما يشير إلى إمكانات من تعب عليه تأليفاً وتدقيقاً من الأساتذة الدكاترة السوريين كل باختصاصه، وما كان يتوفر لدى هؤلاء الأساتذة المحترمين من اندفاع ذاتي واهتمام عميق بالعلم والمعرفة والطلاب الجامعيين والمستقبل، وما كانوا ينالونه لقاء ذلك من تقدير وثناء على جهدهم وعملهم، على الجانب المعنوي أكثر منه على المستوى المادي رغم أهميته، وهو ما جعل من هذا الكتاب ذا سمعة طيبة حملته بعيداً ليغرف منه الآخرون أيضاً.
ولعل حال الكتاب الجامعي الآن، وصولاً لعدم اعتماديّته، حتى من قبل الوزارة المعنية به والمسؤولة عنه، دليل إضافي على ما أوصلتنا إليه السياسات التعليمية من ترهل، مع عميق الأسف.
مع الأخذ بعين الاعتبار، أن الإمكانات ما زالت متوفرة، فالعقول السورية النيرة، المجبولة بالعلم والمعرفة التخصصية، لم تجفّ كما يريد لها البعض، لكنها لا تثمر إلا بتوفر البيئة المناسبة لها، بعيداً عن الولاءات والمحسوبيات والوساطات والفساد والتهميش والإفقار، ناهيك عن عدم التقدير والاهتمام، حيث لا يمكن أن يستقيم العلم والعطاء المعرفي في ظل هذه الآفات وغيرها، والتي تعتبر من مفرزات ونتائج السياسات المتبعة على المستويات كافة.
أخيراً، نقول للحكومة والقائمين على الأمر من أصحاب القرار: أعيدوا الاعتبار لجامعاتنا وكلياتنا الحكومية التي خرّجت أجيالاً متعاقبة من المتخصصين، انتفع بها الداخل السوري كما انتفعت بها دول الخارج أيضاً، ولا شك أن بعضكم، أو جلكم، خريج هذه الجامعات، وأعيدوا الألق للكتاب الجامعي السوري، وردُّوا له اعتباره المفقود، بدلاً من وأده، فما هكذا تورد الإبل، وما هكذا يُردُّ الدَّين!.