كيف نضع حداً للفساد؟

كيف نضع حداً للفساد؟

عقدت وزارة العدل، نهاية الأسبوع الماضي، ورشة عمل بعنوان «تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد نحو استراتيجية وطنية لمكافحته»، وقد حضر الورشة عدد من الوزراء، بالإضافة إلى بعض القضاة.

ومن التوصيات الصادرة عن الورشة: «أن الفساد أصبح يسيطر على مناحٍ عديدةٍ في المجتمع والاقتصاد السوريين، مشددة على ضرورة وضع استراتيجية وطنية شاملة وفعالة لمكافحة هذه الظاهرة».
توصيات
مع عدم التقليل من أهمية الورشة، ومع التأكيد على ضرورة العمل بشكل جدي من أجل مكافحة الظاهرة المستشرية، إلّا أن ما رشح عن ورشة العمل عبر وسائل الإعلام يشي بأن الحديث عن الظاهرة لم يلامس جوهرها على مستوى الأسباب، وبالتالي فإنها لم تصل إلى الخواتيم المرجوة منها، وهو غير مستغرب بطبيعة الحال، مع عدم إغفال أهمية بعض النقاط المثارة.
فقد توصلت ورشة العمل إلى مجموعة من التوصيات منها:
_ مكافحة الفساد تبدأ من الفرد مروراً بالأسرة ثم المؤسسات التعليمية.
_ تجفيف منابعه عبر تعزيز قيم النزاهة والشفافية والعمل والمساءلة وتوفير سبل العيش الكريم.
_ تعزيز مبدأ سيادة القانون أمام القضاء لضمان معاقبة الفاسدين.
_ تفعيل عمل المؤسسات الرقابية وإعادة هيكليتها لتكون الملاذ الآمن للمجتمع في مكافحة الفساد.
_ أهمية ثقافة المشاركة المجتمعية في مكافحة الفساد وضبط حالاته والإخبار عنها وإيصالها إلى الجهات الرقابية أو الضابطة العدلية أو القضائية.
_ الإسراع في تنفيذ مشروع الإصلاح الإداري وتبسيط الإجراءات الإدارية.
_ وضع آلية لمكافحة الفساد الوظيفي عبر تفعيل مبدأ الاختيار على أساس الجدارة والكفاءة وتبوؤ الوظائف العامة على المستويات كافة.
إدراج الملاءة المالية كشرط للتعيين أو تبوؤ المناصب على المستويات الوظيفية كافة.
من التوصيات أعلاه، وبرغم أهميتها، يتبين بأن الوقوف عند الظاهرة بتحليل أسبابها ركز على الجانب الفردي، وكأنها نتاج لسوء وتردي الأخلاق الفردية، لتأت تبويبات التوصيات نتاجاً لذلك.
فهل فعلاً ظاهرة الفساد هي عبارة عن نتاج لسوء الأخلاق الفردية وترديها، أم أن سوء الأخلاق هو أحد منتجات الفساد؟
في عمق الظاهرة
لعلنا لا نجافي الحقيقة إن قلنا بأنه في زمن العولمة، وفي ظل نموذج الليبرالية الجديدة المعمم، فإن آفة الفساد كظاهرة لم تعد كما كانت سابقاً، مقتصرة على مكان محدد، أو شخص بعينه، بل أصبحت ظاهرة معممة مترافقة مع نموذج الليبرالية الجديدة وإحدى نتائجها.
فالفساد في ظل النموذج الليبرالي السائد هو أحد أشكال ترجمة التزاوج بين المال والسياسة أو بين المال والسلطة، ونتاجاً له، بحيث أصبحت ظاهرة الفساد منتشرة ومتسيدة كونياً، يدعمها في ذلك انتشار غيرها من الظواهر الناتجة عن هذا التزاوج، القائم على القيم الرأسمالية النفعية المتبادلة، مع المزيد من بسط السيطرة والنفوذ عبر الكثير من الوسائل والأدوات، الإعلامية والثقافية والعلمية والتكنولوجية وغيرها، بما فيها بعض المنظمات الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي واتفاقات التجارة الحرة ومنظماتها وغيرها الكثير، بمقابل تدمير وسحق أية قيم أخرى تحول دون الوصول لهذه النفعية، أو تُعريها، بما في ذلك من تدمير لقيم الديمقراطية والعدالة التي لطالما تنطحت بها الليبرالية وتعولمت من خلالها.
السياسات الليبرالية هي الأس
في هذا السياق فإن التوصيات أعلاه لم تلامس حسب ظروف بلادنا عمق الظاهرة، وبالدرجة الأولى السياسات الاقتصادية الاجتماعية والمعمول بها رسمياً، والتي بجوهرها الليبرالي القائم على الحفاظ على مصلحة الأغنياء وأصحاب الثروة على حساب البقية الباقية من الشرائح الاجتماعية، تعتبر أساً وأساساً لوجودها وانتشارها، وتعميمها مع غيرها من الظواهر السلبية الأخرى.
فالسياسات الليبرالية المعتمدة على المستوى الرسمي منذ عقود، أدت عملياً إلى غياب العدالة الاقتصادية الاجتماعية، وإلى زيادة حدة الفرز الطبقي، وصولاً إلى المزيد من الفقر والتهميش والجهل، وتدنى مستوى الحريات على مستوى الوسائل الديموقراطية وضعف دور الرقابة والمحاسبة، أو على مستوى القيم الاجتماعية والثقافية، وأدت إلى تراجع المنظومة الأخلاقية.
اعتباراً من سياسات إعادة الهيكلة الاقتصادية والتنمية غير المتوازنة، مروراً بتخفيض الإنفاق على الدعم الاجتماعي وسوء توزيع الثروة، وصولاً لسياسات تجميد الأجور والتي أصبحت رمزية بنهاية المطاف مع جيوش العاطلين عن العمل، بالتوازي مع سياسات الانفتاح وتحرير التجارة، مروراً بقوانين الاستثمار المصحوبة بالإعفاءات الضريبية الكبيرة، وغيرها من الأمثلة الحية الكثيرة الأخرى، وصولاً لتهميش دور الدولة نفسها على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، كل ذلك ما هو إلا نتيجة ومحصلة للسياسات الليبرالية المتبعة، المحابية لمصالح الأغنياء وأصحاب الثروة على حساب مصالح البقية الباقية من الشعب.
السبب الحقيقي والعلاج
لقد كان تهميش دور الدولة لمصلحة قوى السوق، أحد المنافذ الأساسية لتفشي هذا الوباء، ومن هنا فإن الإستراتيجية الوطنية الشاملة المطلوبة، يجب أن تنطلق من إعادة الدور الاجتماعي للدولة، عبر عملية تنمية حقيقية وفعالة تطور القوى المنتجة في مختلف المجالات، والاستثمار الأمثل للموارد، بما يحقق نسب نمو عالية، قادرة على تلبية حاجات التطور الاقتصادي_ الاجتماعي ويردم الهوة بين الأغنياء والفقراء وإغناء العالم الروحي للإنسان، بمعنى آخر: إن العملية ليست مسألة ثقافية فقط بل هي عملية اقتصادية اجتماعية سياسية شاملة ومتكاملة، لتجاوز كل الآفات والظواهر السلبية التي تزايدت في ظل سيادة الليبرالية الاقتصادية، كما أن فسح المجال لقوى المجتمع أكثر فأكثر لتعبر عن رأيها، وإعطاء المزيد من الدور للإعلام الوطني وتطوير أدائه، وتمكين قوى المجتمع وزيادة فعاليتها في هذا المجال ستكون عوامل مساعدة وجادة للقيام بهذه المهمة الوطنية، ومن الجدير بالذكر في هذا المجال، ضرورة عدم الخلط بين الفساد الصغير، والفساد الكبير فالأول نتاج الثاني وابنه الشرعي.
إن عدم تحميل السياسات المعتمدة المسؤولية عن ظاهرة الفساد وتفشيها، سيؤدي إلى غياب الهدف العميق، ويجهض أية محاولة لمعالجتها، ليس ذلك فقط بل وأن يُحمل المسحوقين مسؤولية هذه الظاهرة، بالرغم أنهم أكثر من يدفع ضريبة مغباتها، مع ضريبة كل السياسات المُفقرة والمُهمشة.