هل هناك أمل بأن نلعب كرة القدم؟
محمد عدوي محمد عدوي

هل هناك أمل بأن نلعب كرة القدم؟

في مصر عتيقة، أو كما يسمونها الآن بالقاهرة القديمة، وفي تلك الحارات الضيقة المتربة، والبعيدة عن أعين موظفي الحكومة ورجال الأمن والأغنياء والمتطفلين، كنت ألعب كرة القدم، متحفزاً، متنمراً، رافضاً لكل المصطلحات المساقة، والعمق والعرض والطول، كنت أتحدى الأمتار القليلة التي كانت تصارعني بين جانبي الحارة، مشكلة جدراناً أشبه بجدران الباستيل في وجه الثوار.

ظللت لسنوات طويلة قادراً على تمييع المساحة، وترويضها من أجل أن أحصل على حقي في لعب كرة القدم في تلك الأمتار القليلة، كنت في تلك الأيام مؤمناً بأنني أمارس كرة القدم بكل وهجها ومتعتها.
كنت قادراً على تحدى انسحاب الدولة ومؤسساتها من دورها الأصيل في منحي مساحة ألعب فيها، كما كنت رافضاً للحلول الطبقية بكوني ألجأ إلى نادي الطبقة الثرية، ليس فقط لرفضي للمبدأ ولكن أيضاً لعدم قدرتنا المالية.
في تلك الأيام البعيدة كنت لا أملك سوى طاقتي في الركض، أما الآن وأنا لا أملك سوى طاقتي في الفهم، فأستطيع أن أسأل ذلك السؤال الذي أتى بعد ما يقرب من خمسةِ وثلاثين عاماً: هل هناك أمل بأن نلعب كرة القدم؟
على درب الخطيئة
في مشهد أقرب للهوس كنت أجلس في مدرج دمر الثقافي أشاهد، مع المئات من المشاهدين، مباراة الدور قبل النهائي لكأس العالم ما بين انجلترا وكرواتيا، ولاعتبارات كثيرة اخترت أن أشجع كرواتيا، وظننت حينما بدأت المباراة أنني سأكون مع القلة ممن سيراهنون على فوز الفريق السلافي، لكونه الأفقر تاريخياً واقتصادياً والأقل شأناً في إدارة العالم، كما أنها ما زالت تحمل «وصمة عار» ثقافتها السوفياتية، التي لن يغفرها رب الغرب أبداً!
كانت دهشتي كبيرة حينما وجدت غالبية المشاهدين يسيرون معي على درب الخطيئة واللاعقلانية والطوباوية الكروية، الأقرب لمفهوم «العصفورية» عند «الشوام».
كان المدرج يهتز بعنف مع كل تمريرة أو ركلة مميزة للفريق الكرواتي، ورغم هدف التقدم للإنجليز إلا أن رائحة الأمل تكاد أن تشمها في الهواء، كما الياسمين في بدايات أيلول.
حينما دخل هدف التعادل كان الهوس كان قد أخذ مجراه، وانفتح سيل جارف من الحلم، منطلقاً من أعلى نقطة من سماء المقهورين، إلى سفح وادٍ مُعتمٍ من تاريخ الاستعباد والاستغلال، كانت الإمبراطورية البريطانية تسقط في مساحة لا تبلغ واحد على ألف من مساحة دنكيرك، حيث أبيد الجيش البريطاني على يد الجرمان أبناء عم السلاف، في دنكيرك في يونيه ١٩٤٠، وفي حين كانت العيون تتابع دخول هدف الفوز للكروات كانت الأجساد قد انتفضت، معلنة بقدرتها على التعبير عن الفرح بكل الأشكال المفهومة وغير المفهومة.
حطب ووقود المتعة
متجاوزاً حارتي وكرتي البالية بآلاف الكيلو مترات، متناسياً فقري وعدم قدرتي على لعب الكرة حيث أريد، متفاجئاً ببشر أكلتهم الحرب ثمانيَ سنوات دون رحمة، متشفياً في إمبراطورية منحتنا يوماً من الأيام كرة وقواعد كي نلعب لعبة، لكنها حرمتنا من الفوز عليها سنوات طويلة، منذ أن علمتنا اللعبة كي تخلق منا مهزومين، وحين تعلمناها رسملتها وخصخصتها كي لا نستطيع أن نلعبها، فقط لنظل مشاهدين.
نحن المشاهدون، حطب الاستاد، وقود المتعة في المدرجات، ذائقوا جحيم الدقائق الأخيرة في المباريات، الحالمون بهدف الفوز، والرحيمون بلاعبينا عند الخسارة، نبكي في المدرجات طلباً من الله نصراً مستحقاً، قبل أن نبكي له طلباً لأن ينتقم ممن يسرقون ثرواتنا، نحن الخطاؤون في اختيار الفرق التي يسهل هزيمتها، لكننا لا نطلب المغفرة، فقط نطلب العدل، نطلب أن تعود كرة القدم لعبة لكي نلعبها، وليست سلعة لا نستطيع شراءها، نطلب أن تكون لعبة كرة القدم ملكاً للفقراء قبل الأغنياء، نطلب فقط وفقط أن يتركوننا نلعبها في حاراتنا، ولا يهدمونها من أجل أن يقوموا بإنشاء ملاعب جولف أو منتجعات سكنية.
بعد فوز كرواتيا على إنجلترا، سيدة الإمبراطوريات، هل هناك أمل أن نعود للعب كرة القدم؟
في غير مكان
في مخيم أولاد زيدان للمهاجرين الأفارقة بالدار البيضاء في المغرب، يتحدى المقهورون مآسيهم بأن يلعبوا كرة القدم، العشرات منهم القادمون من حيث ترك الاستعمار أوطانهم منهوبة، يحلمون بأن يرحلوا إلى حيث رحل السيد المبجل ذو البزة الأنيقة والحذاء اللامع إلى مدينته البلورية التي تتلألأ مساءً بعد أن نهب مدينتهم.
يتشكلون في فرق تحمل أسماء أوطانهم، ويرتدون قمصاناً تحمل ماركات عالمية شاركت لعشرات السنين في أعظم وأكبر عمليات نهب منظم في تاريخ البشرية في القارة السمراء (أديداس_ نايك_ بوما_ بياتريك) ويحلمون باللعب في أندية سرقت واشترت بأموالها أعظم لاعبي كرة القدم في إفريقيا، ومنحتهم وهم الجنسية كي يقوموا بدورهم المعتاد في جلب الانتصار والمجد لمن لا يستحقونه.
في مخيم أولاد زيدان للمهاجرين يطوف التفاؤل على الوجوه خجلاً، بينما الأقدام تداعب كرة لطالما كانت مهمتها الأولى هي صناعة البهجة والفرح، وليس المال والشهرة.
وفي لحظة صدق يقول جابل جيانغ، الهارب من قريته في السنغال: «نلعب كرة القدم لكي نستمتع بوقتنا وننسى».
هناك في ذلك المخيم ما لم يكن في أستاد لوجينيكي في العاصمة الروسية، هناك كرة قدم، قد تبدو مهترئة وقذرة ولكنها أكثر متعة من تلك الكرة النظيفة التي تم تلميعها بمليارات الدولارات لكي تبدو لائقة بأقدام لاعبي الإمبراطورية الأم.