لا غفران للحكومة تجاه ظاهرة التسول
في جلسته المنعقدة بتاريخ 23/1/2018، قرر مجلس الوزراء: «وضع تشريعات تمكينية لمكافحة ظاهرة التسول، والتشدد بملاحقة المشغلين، وتوعية المواطنين بخطورة هذه الظاهرة، عن طريق وزارات الأوقاف والإعلام والتربية».
بالإضافة لذلك قرر: «توسيع الطاقة الاستيعابية ضمن المراكز كلها، التي تقوم وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بتقديم الخدمات من خلالها إلى الأشخاص الذين يكونون عرضة للتسول، سواء على مستوى المرأة أو الطفل أو الرجال المسنين».
وقد صرحت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل عقب الجلسة بالقول: «إن موضوع مكافحة التسول يتطلب متابعة جادة من الجهات كلها، للحد من هذه الظاهرة، ومعالجة جذورها، والتشدد في القوانين والسرعة في تقديم الخدمات لهذه الفئة».
صكوك الغفران
كأن قرارات الحكومة، وتصريح الوزيرة أعلاه، يراد منها تقزيم ظاهرة التسول على أنها مشكلة ذات جذور اجتماعية فقط، ولا علاقة لها أو ارتباط بالواقع الاقتصادي المعاشي، أو بالسياسات الحكومية، لا من قريب ولا من بعيد!
فالمشكلة التي تمثلها ظاهرة التسول، حسب الحكومة يمكن حلها عبر التشريعات المكافحة للظاهرة، وبملاحقة المشغلين، وعبر التوعية من الوزارات والجهات صاحبة الاختصاص، بالإضافة لتأهيل المراكز التي تقدم بعض الخدمات الاجتماعية للمتسولين، حسب عمرهم وجنسهم، عند إلقاء القبض عليهم، وزيادة أعدادها وقدرتها الاستيعابية، بعيداً عن مسؤولياتها المرتبطة بهذه الظاهرة السلبية بمقدماتها وتبعاتها، أو بغيرها من الظواهر السلبية الأخرى.
بمعنى آخر، وكأن الحكومة صكت لنفسها عبر هذه القرارات صكوك الغفران، معلنة براءة ساحتها من مسؤوليتها تجاه هذه الظاهرة، وخاصة على مستوى أسباب وجودها وانتشارها!
الفقر والبطالة!
مما لا شك فيه، أن ظاهرة التسول عامة، وهي منتشرة ببلدان العالم جميعها بدرجات متفاوتة، كما تتخذ لها العديد من الأشكال عبر الممارسة، اعتباراً من الشكل المباشر والصريح، مروراً بالأشكال غير المباشرة، وصولاً للأشكال المرتبطة بتوصيفات قانونية جنحية، وليس انتهاءً بما وصلت إليه بعض شبكات التسول، من ارتباط بغيرها من الشبكات الأخرى (المخدرات_ الدعارة_ تجارة الأعضاء_ وغيرها).
لكن في مقابل ذلك، يجب ألا يغيب عن أذهاننا: أن هذه الظاهرة أو سواها من الظواهر السلبية الأخرى في أي مجتمع، ما كان لها أن تظهر وتنتشر لولا توافر شروط هذا الظهور والانتشار، والتي يمكن تلخيصها بعاملين أساسيين، وهما:
_ زيادة معدلات الفقر وانتشاره وتعمقه.
_ قلة فرص العمل، أو انعدامها، وصولاً لزيادة في معدلات البطالة.
وعلى هامش هذين العاملين الأساسيين، تعمل مجموعة من العوامل الأخرى المعززة لانتشار الظواهر السلبية، كالجهل والتهميش والتخلف وغيرها، وخاصة في ظل انعدام شبكات الحماية الاقتصادية الاجتماعية، أو ضعفها، وتحديداً الدور الرسمي للدولة على هذه المستويات المترابطة جميعها.
الحرب والأزمة والظاهرة
على المستوى المحلي، فمما لا شك فيه أيضاً: أن ظاهرة التسول، كما غيرها من الظواهر السلبية الأخرى، زادت واستفحلت خلال سني الحرب والأزمة وبشكل لافت، وذلك للأسباب التالية:
_ زيادة معدلات الفقر المرتبطة بتدني المستوى المعيشي للمواطنين عموماً.
_ زيادة معدلات البطالة، وانعدام فرص العمل، وزيادة الاستغلال على مستوى الأجور بناء عليه ،عبر المزيد من التخفيض عليها.
_التشرد والنزوح، وارتباطهما بفقدان مصادر الرزق الأساس للكثيرين، ناهيك عن استنفاذ المدخرات، وضياع الممتلكات.
_ تهدم شبكات الحماية الاقتصادية الاجتماعية، بما في ذلك الدور الرسمي للدولة، وتراجعها المستمر على هذا المستوى، عاماً بعد آخر، ناهيك عن ظاهرة الفساد، التي انتشرت على هامش هذه الشبكات، وعلى حساب المستحقين.
بالإضافة طبعاً للعوامل الأخرى المؤثرة بشكل مباشر، على كل ما سبق وبعمق كل منها، مثل: زيادة الجهل والتجهيل والتهميش والتخلف و....
تقرير رسمي مغفل
في هذا السياق، ربما يمكن لنا أن نستشهد بنتائج مسح تقييم الأمن الغذائي الأسري 2017 الذي قام به المكتب المركزي للإحصاء، بالتعاون مع هيئة التخطيط والتعاون الدولي، ومنظمة برنامج الأغذية العالمي WFP، والذي صدر رسمياً مطلع العام الحالي.
فقد بين هذا المسح، أن ربع سكان سورية تقريباً يعتبرون آمنون غذائياً (بنسبة 23.4%) فقط، فيما توزعت البقية المتبقية منهم بين معرض لانعدام الأمن الغذائي (بنسبة 45.6%)، وغير آمنين غذائياً (بنسبة 31%)، وذلك حسب ما ورد عبر الموقع الرسمي للمكتب المركزي للإحصاء.
ولعله من المفروغ منه، أن الأمن الغذائي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصادر الدخل ومستوياته، وبفرص العمل المتاحة ومعدلات البطالة، طبعاً بالمقارنة مع مستويات أسعار السلع والخدمات وغيرها.
مع الأخذ بعين الاعتبار، أن المعرضين لانعدام الأمن الغذائي، حسب النسبة أعلاه، مهددون بالوصول لأن يكونوا غير آمنين غذائياً، وذلك ارتباطاً مع معدلات الدخل ومستويات الأسعار، وربما هذا التهديد قائم ومستمر في ظل التغاضي والتغافل الحكومي الرسمي، خاصة إذا علمنا أن التقرير أعلاه مع كل ما يتضمنه من أرقام مخيفة، لم تتعب الحكومة نفسها بدراسته خلال جلستها من أجل اتخاذ ما يلزم بشأنه من قرارات.
وفي هذا السياق، ربما تجدر الاشارة إلى أن «قاسيون» سبق لها أن نشرت عن التقرير أعلاه بتاريخ 17/12/2017، بمادة تحت عنوان « دفن النعامة لرأسها لا يمنع عنها الخطر»، وقد ورد بمتنها:
«هذه الأرقام، بالإضافة إلى أنها تشير عملياً إلى النتائج الكارثية للحرب والأزمة، فهي تعكس كذلك الأمر، النتائج الكارثية لمجمل السياسات الحكومية المتبعة، بنتائجها السلبية على الأسر السورية، وحالة الفقر والعوز التي حلت بها وتعيشها».
الحكومة هي المسؤولة
والسؤال الذي يطرح نفسه، بعد هذه الأرقام الرسمية والنسب أعلاه: ما هو مصير غير الآمنين غذائياً، والذين وصلت نسبتهم إلى 31% من الأسر السورية، إن لم يكن التسول، بأشكاله وتلاوينه كلها، وأحد تجلياته كظاهرة منتشرة وتتعمق يوماً بعد آخر؟
ولتطالعنا الحكومة بعد ذلك كله، تبريراً لتقصيرها على مستوى عملها وأدائها، بأن تقزم ظاهرة التسول، مصورة إياها على أنها ظاهرة ذات جوهر وأس اجتماعي فقط، مقررة أن تكافحها كنتيجة، بعيداً عن معالجة أسبابها.. هكذا!
علماً أن السياسات الحكومية وحدها هي المسؤولة عن تفشي هذه الظاهرة، كما غيرها من الظواهر السلبية الأخرى، اعتباراً من سياسات تجميد الأجور والمزيد من الإفقار المتعمد للمواطنين، مروراً بتخفيض الإنفاق العام على مستوى الدعم والخدمات العامة (صحة_ تعليم_ محروقات_ كهرباء_ خبز_ مواد مقننة_ وغيرها الكثير)، وصولاً لعدم توفير فرص العمل لجيوش العاطلين عنه، وليس انتهاءً بمحاباة مصالح كبار التجار والمستغلين والفاسدين على حساب مصالح عموم المواطنين.