«جملة بريئة» في مجلس الوزراء!
تمر أحياناً الكثير من التوجهات الرسمية دون أن يتم تسليط الضوء عليها بما يكفي لتوضيح خفاياها، وأهدافها النهائية بعيدة المدى، فبعض التوجهات تكون عبارة عن مجموعة من العبارات المسبوكة بدقة، بحيث تتوه معها إمكانية قراءة ما بين سطورها لسبر أغوارها وغاياتها الحقيقية.
ففي الجلسة الأسبوعية لمجلس الوزراء بتاريخ 24/10/2017، «كلف المجلس وزارات الاقتصاد والتجارة الخارجية والصناعة والدولة لشؤون المنظمات بالتنسيق الدائم مع الاتحادات باعتبارها رافعة اقتصادية وشريكاً أساسياً للحكومة في عملية التنمية».
عبارات مخادعة!
التكليف أعلاه، وفقاً للعبارات التي تتحدث عن الشراكة بين الحكومة والاتحادات_ هكذا بمطلقها_ بعملية التنمية واعتبار هذه الاتحادات رافعة اقتصادية، ربما يُقرأ منه على أنه فتح لبعض الآفاق من التعاون، النظري بالحد الأدنى بين الحكومة والاتحادات، التي غالباً ما كانت غائبة بمقترحاتها ومطالبها على مستوى العمل الحكومي، وخاصة الاتحاد العام لنقابات العمال والاتحاد العام للفلاحين، الممثلين لأكبر شريحتين بمطالبهم المكررة سنوياً على أسماع الحكومات المتعاقبة دون أي شيء ملموس على المستوى التنفيذي، اعتباراً من الأجور وليس انتهاءً بالإنتاج ومستلزماته ودعمه، علماً أن جزء من مهام هذه الاتحادات كمنظمات شعبية هو الرقابة على الأداء الحكومي نفسه.
لكن تتضح القراءة أكثر مع استكمال فقرة التكليف الحكومي، حيث «كلف المجلس كل وزارة تشكيل مجموعة عمل للتنسيق والعمل مع وزارة الدولة لشؤون المنظمات، لدراسة التشريعات والأنظمة الداخلية للاتحادات لتقوم بالدور الاقتصادي والاجتماعي المأمول منها».
بين السطور
استكمال التكليف الحكومي بهذا الشكل فيه قراءتين:
الأولى: أن هذه الاتحادات لا تقوم بالدور الاقتصادي والاجتماعي المأمول منها (حكومياً)، وهي بحاجة للتدخل الحكومي عبر مجموعات العمل من أجل إعادة النظر بالتشريعات والأنظمة الداخلية لها، وكأن هذه الاتحادات قاصرة وغير كفء لتحديد ضروراتها واحتياجاتها ومتطلباتها من ذاتها وبذاتها، وهي على ذلك بحاجة إلى هذا الشكل من الوصاية الحكومية المباشرة على عملها،
كما وفيه ضمناً تغييب كل ما تم طرحه من هذه الاتحادات، على مستوى قواعدها وقياداتها، طيلة سنين وعقود على شكل مطالب، أو اقتراحات تصب في مصلحة المنتسبين إليها، كما وتتقاطع مع المصالح الوطنية، باعتبار أن بعض الاتحادات تمثل قواعد جماهيرية واسعة.
أما القراءة الثانية، فهي: أن الدور الاقتصادي والاجتماعي الذي تمارسه هذه الاتحادات يجب أن يتوافق مع الحكومة وتوجهاتها، كي يصح فيه القول أنه حقق ما هو مأمول منه! بغض النظر عمّا هو مأمول من هذه الاتحادات من قبل قواعدها التنظيمية والشعبية الواسعة بمطالبها المحقة، وحقوقها المستباحة.
وهو في النتيجة، ربما يكون فيه نسف لكل المقومات الموضوعية التي تم على أساسها تكوين هذه الاتحادات تاريخياً، كما ونسف كل ما من شأنه تأمين مطالب وحقوق المنتسبين لها، وخاصة على مستوى أدوات الضغط التي تمتلكها هذه الاتحادات عبر نموذجها التنظيمي والتشريعات التي تعمل من خلالها، وحقوق وواجبات منتسبيها المتضمنة بأنظمتها الداخلية والمصانة بموجب التشريعات والقوانين التي يراد تعديلها حكومياً وفقاً للتكليف أعلاه.
ثالثة الأثافي!
لنصل إلى خاتمة التكليف الحكومي، حيث «كلف المجلس الوزارات المعنية بوضع مؤشرات أداء فيما يخص أسس ترشيح رجال الأعمال لشغل مواقع أعضاء مجالس إدارات غرف الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة واتحاد المصدرين».
ولعل هذا التكليف يتوضح من خلاله الجوهر النهائي المطلوب من التدخل الحكومي المباشر بعمل الاتحادات ودورها، فالغاية الحكومية بالنتيجة هي: الحفاظ على مصالح رجال الأعمال، عبر ما تمت تسميته أسس الترشيح ومؤشرات الأداء، والتي لن نستغرب أن تكون على مقاسات معينة تتوافق مع مصالح الكبار من هؤلاء وتمثيلهم.
ولم لا؟! فلطالما كانت الحكومة محابية لمصالح هؤلاء الكبار، دوناً عن سواهم عبر سياساتها الليبرالية المتبعة والمعلنة.
ولعله وفقاً لهذه النتيجة، تتضح مصداقية العبارة الحكومية «شريك أساسي للحكومة في عملية التنمية» والمقصود بها هؤلاء الكبار تحديداً، وهي من كل بد التنمية التي تحقق المزيد من تكديس الأرباح في جيوبهم، والشراكة الأعمق والأوسع على مستوى اتخاذ القرار وتنفيذه.
حرب مواربة
من الجلي أن الاستمرار في السياسات الليبرالية المحابية لمصالح كبار التجار والسماسرة، يتطلب تحييد أدوار الاتحادات، بمختلف مسمياتها وقواعدها التمثيلية، وخاصة ذات التمثيل الشعبي الواسع والعميق، وصولاً إلى إضعافها وربما تصفيتها، وهو ما يتم العمل عليه بشكل جدي ومتسارع على ما يبدو.
في المقابل، مما لا شك فيه: أن القواعد الشعبية المنضوية والمنضمة لهذه الاتحادات لا ترضى بالوصاية، لا من قبل الحكومة ولا من قبل أيةِ جهة أخرى، كما ولن تقبل بتحييد دورها والاستمرار بهضم حقوقها، خاصة وقد ضمنت استقلاليتها وجزءاً هاماً من حقوقها ومكتسباتها، تشريعاً وقانوناً ودستوراً، عبر نضالها على مدى عقود من الزمن.
لكن يبقى السؤال النهائي بعد ذلك كله: ما هو موقف قيادات الاتحادات من هذا الشكل الحكومي العلني من الوصاية والتحكم، بها وعليها، راهناً ومستقبلاً، وماذا ستفعل بمقابل هذا النمط من التغوّل المستمر على حقوق منتسبيها وعلى دورها المأمول حكومياً؟.
سؤال برسم الإجابة السريعة بعد هذا الشكل الجديد من الحرب المعلنة مواربةً وتسرباً ما بين السطور التوجيهية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 834