للمستعجلين فقط: حوار مع خزان دمشق!..
يقول سائق التاكسي (وهو من مواليد 1942)، أنه خزان لحكايات الناس، ويضيف على ذلك مؤكداً، أن الزبون الذي يقف لدقائق أو ساعات بانتظار التاكسي، يصعد إلى المقعد المجاور ليصب كل احتقاناته (بالشوفير) والطريق وشرطي المرور والعداد، وكذلك بزوجته الغائبة عن المقعد الخلفي لأنها منشغلة بإعداد طعام الغداء.
خزان المعلومات هذا، يضيف إلى الخزان شخصه، فالطبيعي والحال كذلك أن يكون (داخل الخزان) و(المتفرج) بآن، فيجعل مساحة الحديد المتحركة فوق حفر الشوارع مساحة أشبه بمسرح بريشت حيث يكون الممثل، ممثلاً ومتفرجاً بآن.
ما الذي يمكن أن تأخذه من هذا الخزان؟!
في البداية سيكون الاقتصاد، فكل (سائق) هو خبير اقتصادي بامتياز، خاصة وأنه لم يتبق أمام الاستثمارات الصغرى في سورية ـ ونعني بالاستثمارات الصغرى الاحتياطات النقدية البسيطة ـ لم يتبق أمام هذه المدخرات من مجال استثماري سوى (التاكسي) لتنصب فيها، فنصف المليون، أوالمليون لن تتحرك في سوق بات ملكاً للتوكيلات الكبيرة، ولن تتحرك في مساحة الزراعة الأكثر انكفاءاً، ولن تتحرك في مجال العقارات التي تنخفض أسهمها يوماً بعد يوم، ولن تتحرك في مجال الاتصالات، لأن الاتصالات بقبضة أصحاب الذروة والحظوة، وفي نهاية المطاف ستتحرك في تابوت الحديد هذا الذي ينقلك من طرف في المدينة إلى طرف آخر، تاركاً وراءه الدخان والعوادم والضجيج، كما تاركاً مدينة تآكلت شجراً، وبشراً، واستحال السرطان من زوار الأسرة وأفرادها.
ما الذي يقوله السائق في عالم الاقتصاد!!
يقول بأن سيارته تساوي 600 ألف ليرة سورية وبأنها (تطالع) ما يقارب ألف ليرة سورية باليوم الواحد، عدا عن استهلاك البنزين، ثم يقبل راحة يده وقفاها، ليعلن ندمه بعد أن أنجز عملية التقبيل هذه، والسبب باختصار، وحسب تقديرات السائق (الخزان)، أن قراراً واحداً يتصل بإدارة الجمارك، أو برئاسة الوزراء يجعل سعر سيارته ينخفض إلى النصف، وبالتالي مجموع ما ستنتجه السيارة لن يغطي خسارته التي تترتب على هذا القرار مما يجعل حياته (ركض كلاب، غبرة وقلة واجب)، و هذا بعدٌ من اقتصاديات السائق، الذي لا يتحدث 'عن (اهتلاك) وسيلة الإنتاج، كما يتحدث الاقتصاديون العريضون، ولكنه يفسر كل شيء، تماماً كما هو الاقتصاد الذي يفهمه أصدقاؤه السائقون.
وحين يخرج الحديث عنه شخصياً ليطال الزبون، فالزبائن أنواع:
الزبون 1:
زبون طفران، والطفران هذا يصعد التاكسي لأنه إما مرغم على الصعود، (وهذا ناتج عن موعد طارئ)، أو أنه «متفزلك»، وهذا الزبون، ومن لحظة صعوده إلى لحظة هبوطه، تبقى عينيه جاحظتين على العداد.
الزبون 2:
وهو زبون مدمن تاكسي، ضاحك مستطلع، من حين صعوده غارقاً في المقعد المحاذي، إلى لحظة نزوله، لا يكف عن السؤال والجواب، وهو كما يقول (الخزان) لذيذ، مسل، غالباً ما يدفع (البخشيش)..
الزبون 3:
هو الزبون اللقطة، والزبون اللقطة لا يأتي إلا في الصيف، وغالباً ما يكون «شقيقاً نفطيا»، وفور صعوده إلى السيارة، يسأل عن أحوال البلاد والعباد، ليقود جميع البلاد والعباد إلى شقة مفروشة، ليست مفروشة بالخزائن والمقاعد والأثاث، وإنما بتلك الأجساد التي تتدرج من الـ 16 إلى الـ 40 سنة، ولكل تسعيرته، والتسعيرة لا تحددها تكاليف الإنتاج ولا هامش الربح الذي يسمونه القيمة المضافة، وإنما تحدده قاعات العرض والطلب في السوق. وأسواق الشقق المفروشة التي كانت محصورة حتى منتصف التسعينات في التجارة والمزة، وبعض الأحياء الحديثة في دمشق، باتت أسواقاً في كل مكان حتى تحت شواربنا وذقوننا كما يقول السيد الخزان.
في أطراف دمشق، في الأحياء القصية والمحافظة، في بيوت ظلت وحتى فترات قريبة بيوتاً تعيش على عرق الجبين، فغدى الجبين لا يتعرق، وغدت البيوت بحاجة إلى الكثير ـ الكثير الذي لا يستطيع جبين تغطية نفقاته:
بحاجة إلى ستالايت من اجل متابعة (من سيربح المليون).
بحاجة إلى موبايل يرن على نغمات رقصة شرقية.
بحاجة إلى فساتين. وعطور ومساحيق.
وبحاجة إلى رغيف خبز بعد أن وصلت معدلات البطالة 12 % من سوق العمل عداك عن البطالة المقنعة، ومازال العاطلون عن العمل، حائرين في النتائج العملية التي ستؤول إليها قوانين القروض الخاصة بالعاطلين.
عند هكذا حوار تصبح مشدوداً للخزان، فاحاديث الجنس حتى ولو كان جنس الدعارة، أحاديث تشدك وتأخذك إلى التفاصيل.. عند هذه النقطة ستتوقن، ستسأل الكثير والكثير في الوقائع التفصيلية، في كيفية العرض وكيفية الطلب، وفي جودة (البضاعة)، وعند هذه النقطة أيضاً تبدأ أحاديث كثيرة، مثيرة ومهينة حتى النخاع الشوكي...
تصعد البنت فأسألها:
إلى أين؟
تقول لي ـ حيث تريد!!
وحين تقول لي حيث تريد، فإنها تقدم نفسها وتقدم هويتها، ومهنتها.
والله ياعم يتقطع قلبي حين تصعد بنت معي وتقول لي «حيث تريد»، ولكن حين يصعد «الشقيق» ويقول لي: «ما عندش بنات»؟ أشعر بأنه يطلب بناتي شخصياً، فأود لو أنتزع أسنانه، وشفاهه، وعقاله، ولكن السياحة باعتبارها أحد أهم ركائز اقتصادنا الوطني، لاتسمح لي باستخدام يدي فاستخدم ريقي وأصمت، ولكنه لا يصمت ولا يبلع ريقه، ويثابر على السؤال، ولأنني لن أجيب ينزل دون أن يدفع البخشيش، فالبخشيش لمن ينزل من السيارة برفقته، ويمسكه على يده، ويقوده إلى الشقة المفروشة، وهناك تصبح السيارة استثماراً رائعاً!! استثماراً لا يخضع لرئاسة الوزراء وقراراتها، ولا يخضع لصعود هبوط الدولار الجمركي...
هناك تصبح السيارة مصدر ثروة، وربما مصدر (كرامة وطنية) يا عم، كرامة السياحة!! شيء مخجل ومع ذلك أيهما مخجل أكثر:
أن لا تستطيع دفع ثمن دواء لابنتك، أم أن تصعد الدرج المعتم لبناء في السيدة زينب، وتقابل باحتفال عظيم، فيدخل الزبون، وتخرج أنت؟
هنا تكون النشوة نشوتين:
نشوة في جيبك، ونشوة في عيون «الشقيق» الذي جلس فوق النفط، فأجلسنا تحته..
والله يا عم احترنا ماذا نصنع بشواربنا ولحانا، إذا بصقنا لفوق، نبصق على شواربنا، وإن بصقنا لتحت، نبصق على لحانا، والقضية لا تحتمل أن لا تبصق.. يجب أن تبصق يا عم .. تبصق وتبصق على هذه الحياة.
ما الذي سنقوله للخزان؟!
هل سنقول له: علينا بالمترو، باعتباره حل لمشكلة البلاد؟
إذا قلنا له ذلك، سنصطدم بمئة وألف محذور، تخطيط المدينة وطريق المترو لا يترافقان وفقاً لما راكمته السنون، فقد يكون هذا الطريق طريق المستحيل.
عقلية التوكيلات التي يؤكل المترو فيها؟!
توكيلات مرسيدس، وسوزوكي، وهوندا، ودايو وكابريس.. والوكلاء يأكلون الميترو وهو فوق الخرائط إن شاء أحدهم أن يفكر بالميترو؟
السائقون آلافٌ يرعون آلافاً، أسراً وعائلات بمن فيها عائلات الشقق المفروشة اللواتي لم يكن راقصات معبد، وإنما زبائن فيه، فراقصات المعبد اللواتي كن للدعارة والكهان، كن الصلة ما بين الله والإنسان، أما عاهرات القرن الحادي والعشرين، فهن ذبائح للأشقاء والأحباب وحتى الأولاد...
أين سيذهب سائق التاكسي إن قلنا له توقف أيها الرجل؟!
لرجل توقف، و هانحن ننزل من السيارة و...
ون أن ندفع بخشيش.. لأننا من الفئة الأولى من الزبائن... الزبائن الذين حالما يصعدون، يوجهون أعينهم نحو العداد...
العداد يمرك مسافة، مسافة في المدينة، مسافة في الذاكرة، مسافة في الوجبة السريعة التي تستلقي تحت رجل سريع في حي من أحياء مدينة دمشق...
■ كمي الملحم
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 180