التعليم العالي في الجامعات العربية بين الأماني والواقع

لقد قيل سابقاً: إذا فسد الطب يمكن أن يتسبب في زيادة الأمراض والوفيات، وإذا فسدت الهندسة يمكن أن تتسبب في انهيار بعض البنايات وزيادة تكاليف المشاريع المنجزة، أما إذا فسد التعليم فسيؤدي إلى فساد الإنسان والجيل وكل ما تقدم وكل شيء في المجتمع ولفترة طويلة جداً. فرسالة التعليم مقدسة، والمعلم الصالح (ملح المجتمع) حامل تلك الرسالة التي بها يبنى الإنسان الذي هو غاية الحياة ومنطلق الحياة، وبالتالي بناء المجتمع الأفضل والأمة الفاضلة (وبالعكس)، وذلك يتطابق مع قول السيد المسيح (عليه السلام) لحوارييه: «أنتم ملح الأرض، فإذا فسد أي شيء يمكن إصلاحه بالملح، أما إذا فسد الملح فلا يصلحه شيء».

والآن، نحن في سورية على سبيل المثال لدينا بعض الحالات من التناقضات التعليمية والبحثية العلمية وربما يدعو هذا إلى التشكيك بصوابية القرارات في هذا المجال، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن الإشارة إلى الاستمرار طويلاً في الاقتصار على عدد محدود من الجامعات والكليات والمعاهد الحكومية التي كانت رغم ذلك تؤدي دورها في حينها وبما يوازي ويشبع متطلبات زمنها.
وبقدرة قادر أصبح لدينا طوفان أشبه بـ «تسونامي» من الجامعات والمعاهد والمدارس الحكومية والخاصة والمشتركة، وهذا شيء ممتاز جداً، ونحن نؤيده على مبدأ: زيادة عدد مؤسسات التعليم تؤدي إلى النقص في عدد السجون وأسرّة المستشفيات وعدد الدجالين والمشعوذين والنصابين والمفسدين في المجتمع...إلخ.
ولكن ذلك الـ «تسونامي التعليمي» يقتضي الاستعداد اللازم له بتهيئة عوامل نجاحه لا عوامل إفشاله، فجامعات وكليات ومعاهد ومدارس كثيرة تحدث هنا وهنالك، (وإن تم بسرعة ذلك بدون تهيئة المكان اللازم أو المناسب من المخابر والمكتبات اللازمة...إلخ، فهذا يمكن تعويضه بالمتاح واستدراكه لاحقاً...إلخ)، ولكن لا يمكن أن يتم ذلك بدون توفير المدرسين اللازمين لتغطية ذلك الذي لا يتم في كثير من الكليات المحدثة لا كماً ولا نوعاً، لا كأعضاء هيئة تدريسية ولا كمتعاقدين والغريب في الأمر أنه، رغم الحاجة الماسة إلى أعضاء هيئة تدريسية جدد وقدامى وخاصة من ذوي الخبرة والتجربة والتطوير الذاتي والتأهيل المستمر، نرى أن قانون تنظيم الجامعات الجديد 2006 أودي بكل الأساتذة الكبار الذين ساهموا في إرساء التعليم العالي في القطر بحجة بلوغهم سن الخامسة والستين، في حين سمح لزملائهم الذين يصغرونهم ولو بيوم واحد بالاستمرار إلى سن السبعين)، وكذلك قعد المدرسين القدامى في سن الستين.

والأغرب أنه ليس هنالك من بدائل لهؤلاء المقعدين وهم في قمة عطائهم الفكري، كما أنه ليس هنالك من روافد جديدة كافية لتلبية متطلبات الأجيال الهائلة القادمة بعشرات الآلاف للتعليم العالي بالجامعات والمعاهد، لدرجة أن هنالك مئات من الطلاب المتفوقين من خريجي الدراسات العليا وحاملي الدبلومات وبمعدلات ممتازة لا يجدون الأساتذة المحليين اللازمين للإشراف عليهم لتكميل دراساتهم في الماجستير والدكتوراه محلياً، ولا يمكنهم التكميل على حسابهم في الخارج، وقد لا تتوفر السيولة اللازمة بالعملات الصعبة لدى الدولة لإيفادهم للخارج، وهذا برأيي كبح لقاطرة المعرفة العلمية التي تجر وراءها كل العربات الحياتية الأخرى.
أما التعليم في القطاع الخاص الذي نرجو أن تكون غايته الأولى هي أداء الرسالة التعليمية الوطنية والإنسانية السامية، وتكميل ما لم يتوفر كمياً أو نوعياً في تعليم القطاع العام، وأن لا يتحول إلى إعلانات جذابة لتجارة مربحة وجني أرباح سريعة على حساب الكادحين الغلابى من ذوي الطلاب الراغبين في التعلم (فابن خلدون يقول في مقدمته: «لا يمكن لمعلم أو رجل دين أن يطمع في الثراء، لأن دور كل منهما هو أداء رسالة سامية وليس تجارة رخيصة وجني أرباح مادية سريعة»، وابن خلدون يقيّم في مقدمته المذكورة أخلاق التجار بأنها الأردأ، وبناء على القول يمكن الشك بشرعية ثراء أي من المذكورين)، وانطلاقاً من قول ابن خلدون الكبير، فإننا نرى الخطر الكبير يتجسد في تفكير وسلوكية بعض المستثمرين (التجار الذين يدرسون الجدوى الاقتصادية الأكثر ربحية مادياً للاستثمار في التعليم، ويقارنون: أيهما الأربح؟ هل فتح معمل أحذية وشحاطات؟ أم فتح جامعة خاصة يقدم فيها الأقل لجني الأكثر؟ ويستثمر مثل هذا المستثمر) التاجر حيث الربح الأوفر، لا حيث الرسالة السامية وبناء الإنسان الذي هو غاية الحياة ومنطلق الحياة، مقلدين بذلك بعض الجامعات الخاصة الأجنبية التي هي أشبه بشركات قابضة للأموال لتقديم الوهم العلمي على كرتونات تحمل اسم شهادة خاصة في...؟؟، وخاصة لأبناء العالم الثالث، ولكن بعد قبض الثمن المطلوب منهم الذي ستتم استعادته من الشعوب النامية أضعافاً مضاعفة مادياً وعينياً وثمن أخطاء لاعلمية».

معلومات إضافية

العدد رقم:
281