مدارس.. وحريات

ماذا تعلمت في الحضانة والمدرسة؟!.. أول ما تعلمه جيل كامل هو «طبوا ناموا» وهي كناية عن رغبة المعلمة في الخلاص من أربعين سعدانأ –كما هو الاعتقاد السائد- جالسين في وجهها طوال النهار لا يهدؤون. وبعدها تكتفوا و تعلم هذه الـ «تكتفوا» الانغلاق على الذات.. بدعوى الاحترام للمعلم..

 سألت أبي منذ زمن: أبي كيف أكون حرةً؟ أشعر أنني مقيدة من الداخل. يومها كنت أضيق بنفسي وأشعر أن كل ما لدي من طاقات، محبوسة في قمقم مارد، وعندما نظرت إلى أبي الراقد في السرير رغم مرضه القديم أحسسته حراً أكثر مني. قال أبي أعتقد أن هذا الشيء لا يكتسب هكذا وبمجرد الإرادة. بل هو شيء يولد مع الإنسان. ولكنني وللحقيقة لم أقتنع بجوابه ربما لأنني اعتقدته لا يريد إعطائي إجابة حقاً ريثما يفكر في الأمر.

لم ينته الأمر ها هنا رغم أنني أبعدته عن دائرة الضوء في تفكيري، إلى أن سألتني ابنتي بعد خمسة أيام من حواري مع أبي : ماما كيف أحس بالحرية من الداخل؟ فوجئت بالسؤال فهي لم تكن معي في ذاك الحوار وسعدت بنفس الوقت لأننا متشابهتان - وهذا شعور أمومي معترف به ــ ولأن هذا السؤال يعطيني الأمل بأن هذا السؤال لن يموت، أحسست بصعوبة موقف أبي آنذاك فليس من جواب جاهز في الذهن لأن موضوع الحرية عموماً ليس من الموضوعات المطروحة والمطروقة ضمن دوامة حياتنا اليومية وإن بحثت فهي تبحث في الأطر الفلسفية والسياسية دون أن يكون لهذا الأمر أي أثر على الواقع على سلوكنا اليومي.

رغم أنني لم أعرف الجواب لحظتها إلا أنني أمام الإلحاح فبركت إجابة اعتقدتها قد تكون مقنعة ولو مؤقتاً فقلت: يكون المرء حراً عندما يكون لطيفاً مع الآخرين لا يزعج أحداً وعندما ينهي كل واجباته المدرسية عند ذاك يستطيع أن يستمتع بوقته ويفعل ما يحلو له بكل حرية وسعادة.

وما فتئت من حينها أبحث عن جواب.

وفي يوم من الأيام سألني الأستاذ مروان صقال عن ورقة لها علاقة بأمور الزراعة والبيئة علني أعلم عنها شيئاً ولما نفيت معرفتي بها، تجرأت على سؤاله وطرحت عليه السؤال ذاته؟ فأجاب يملك الإنسان نصفي دماغ أحدهما حر منفلت من عقاله يفعل ما يحلو له دون أي نوع من الضوابط الاجتماعية أو الأخلاقية أو غيرها والنصف الآخر يراعي كل أنواع الضوابط والقوانين ويلتزم بها التزاماً صارما ويعتمد مدى حريتنا على أي جزء من الدماغ نستعمل في نشاطنا ومن الضروري أن نستعمل الجزء الحر فيه بين الفينة والأخرى لأنه هو الجزء المبدع والفنان والمتجدد والذي يعطي الإنسان تفرده.

بدأت أفكر في طفولتي وطفولة جيل كامل مثلي عاش فترة مدارسنا التي لم يحبها أحد.

قلت ربما ينبع بؤس جيلنا وتكبيله من تلك المرحلة. لكن أحوال المدارس وطرق التربية لم تتغير بشكل ملحوظ إلى الآن، اللهم إلا المناهج وحتى المناهج لم تتغير في منطقها ومفهومها عن التربية والتعليم، لذا فحتى أغلال الأجيال لم تتغير وإن كنت قد بدأت في أوائل السبعينات رحلتي مع التعليم ولم أنته حتى الآن فهي رحلة مستمرة عبر عدد من الأجيال.

«طبّوا ناموا»

ماذا تعلمت في الحضانة والمدرسة أول ما تعلمه جيل كامل هو «طبوا ناموا» وهي كناية عن رغبة المعلمة في الخلاص من أربعين سعدانأ -كما هو الاعتقاد السائد- جالسين في وجهها طوال النهار لا يهدؤون. وبعدها «تكتفوا» و تعلم هذه الـ «تكتفوا» الانغلاق على الذات بدعوى الاحترام للمعلم.

طبيعة محرمة

وعندما ينزل المطر أو الثلج تكون القاعدة دوماً السجن داخل الصف بدعوى الخوف من البرد ولكن الواقع هو خوف من التماس مع الطبيعة من شعورنا بأحلى حالاتها الرطبة والمنعشة، الأقرب إلى أنفاسنا وحريتنا.

طرق إبعاد الأفكار الشيطانية

هل استيقظت يوماً على وقع مسطرة المعلمة وهي تضرب في لا وعيك حتى الموت، تلك المساطر متنوعة الأشكال والألوان والمقاطع، التي لا يقل طولها عن أربعين سنتيمتراً حتى تعطى الأثر المطلوب خلال الضرب على باطن اليد وسطحها على الأقدام والأرجل، حتى أصبح لدينا نوع من القناعة بأنه يمكن طرد الأفكار من الرأس بعملية فيزيائية بسيطة جداً تسمى الفلقة، وذلك بدفعها بشكل عنيف من باطن القدم بالضرب فتخرج بقوة الدفع بكل سهولة بعد عدة ضربات من الرأس، وليست هذه القناعة موجودة لدى طلاب المدارس ومعلميها فحسب بل لدى بعض الجهات الأخرى التي تستخدم الآلية نفسها في إخراج الأفكار المختلفة عما هو مطلوب من رؤوس كل من يحملها.

فنون ممنوعة

وما عملية تقليص حصص الموسيقا والرياضة والرسم والفنون في المدارس لصالح حصص أخرى كالرياضيات مثلاً إلا نوع آخر من إنكار حق الأطفال والشباب في تعلم طرق أخرى غير المنصوص عليها في التعبير عما يجول في نفوسنا، وإبعاد أكبر شريحة ممكنة عن الإحساس بهوية محددة إذ أنه حتى عندما توجد مثل تلك الحصص يتم فيها تماماً تجاهل التراث الغني الذي كان آباؤنا يتعلمونه في مدارس الخمسينات والستينات من رسوم الزخارف العربية العتيقة إلى الموشحات ورقص السماح وغيرها كثير من مكونات الهوية الوطنية المستقلة التي تمنح الشعور بالحرية والاستقلال والانتماء في آن معاً.

بروفة على مهنة المستقبل

إلى أسوأ شكل يمكن أن يمر حينما يلعب طالب من طلاب الصف دور رجل الأمن والمراقب على ما يتنفسه زملاؤه من هواء ويقرؤونه من كتب ويغنونه من أغان ويروونه من حكايات، هنا نفقد حرية الابتسام والضحك والرقص وحتى الموت.

ان شعوري مع جيل كامل ما زال ينمو بالحرية، شعور قاصر ومهدد في أعمق زواياه، هل تشعر بما أشعر به؟ ربما استطعنا أن نجد حلاً حتى نخرج جميعاً من هذه الحالة، إذ يقال أن أولى خطوات الحل هو إدراك المشكلة فهل ندركها؟

عروب المصري

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

معلومات إضافية

العدد رقم:
170