مفهوم الدستور.. ومعنى خروج السلطة على أحكامه
ربما تكون معرفة محتوى الدستور والقواعد التي ينطوي عليها عنصراً هاماً من العناصر المكونة للثقافة القانونية والحقوقية في أي مجتمع، إلا أن إدراك مفهوم الدستور هو الجوهر الذي يحدد مستوى الثقافة الحقوقية لدى الأفراد والمجتمعات، لأن المحتوى – على أهميته – قابل للتغير على المدى الطويل، بل وأحياناً على المدى القصير، بفعل تغيرات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية مفاجئة.
وبتعريفٍ موجز وشامل يمكن القول إن الدستور هو مجموعة القواعد التي تنظم تأسيس السلطة وانتقالها وممارستها، أو لنقل مجموعة القواعد المتعلقة بالتنظيم السياسي في دولة من الدول، ولا يمكن الإحاطة بكل أبعاد هذا التعريف المدرسي الشائع والمختصر للدستور دون رصد نشأة المفهوم وتطوره التاريخي.
الدستور بمعنى القواعد المنظمة للسلطة ليس أمراً حديث العهد، بل ربما يرجع إلى نشأة أول نظام حكم في التاريخ، ذلك أن فكرة الدولة نشأت وتطورت ببطء، وكانت ترافقها مجموعة قواعد تنظم السلطة وكيفية إدارتها، وكانت هذه القواعد ذات طابع عرفي، فلم تكن تدون أو تدرس، وأول محاولة لتجميع أنظمة الحكم بشكل مكتوب فيما يشبه الدساتير المعاصرة كانت على يد الفيلسوف اليوناني أرسطو.
إلا أن الدساتير المنظمة للدول والممالك بقيت عرفية بوجه عام، حتى بعد انتشار عملية التدوين، لأن هذه القواعد «الدستورية» كانت تدون بهدف الدراسة والتأريخ وتسهيل الرجوع إليها عند الضرورة، لا لتكون نصاً ملزماً واجب الاتباع، لأن الأساس فيها كان ارتكازها على ضمير الجماعة، بمعنى أن تغير الأوضاع الاقتصادية ومن ثم الاجتماعية والسياسية هو الذي كان يغير مضامينها أو يثبت هذه المضامين في ضمير الجماعة. وكان الذي يحدد مشروعية السلطة من عدم مشروعيتها هو مدى تطابق كيفية تنظيمها للسلطة وإدارتها لها مع القواعد المستقرة في ضمير الجماعة، وأما كيفية الوصول إلى السلطة أو الشق المتعلق بتأسيس السلطة في القواعد الدستورية، فقد ظل لقرون طويلة قائماً على أساس إلهي إن من خلال إعطاء الحاكم صفة إلهية، أو من خلال اعتباره مكلفاً من الإله بالحكم في مراحل لاحقة، وغالباً ما كان الولاء للملك في الغرب و للسلطان أو الخليفة في الشرق على حد سواء يقوم على مبررات دينية ووراثية واقتصادية في آن واحد.
إلا أن النقلة النوعية في مفهوم الدستور تمت في نهاية القرن السابع عشر، ثم في القرن الثامن عشر، وجاءت تحت تأثير عاملين أساسيين متراكبين، الأول يتعلق باتجاه فقهاء القانون الغربيين نحو ضرورة تدوين جميع القواعد الدستورية في كل دولة وتبويبها وتجميعها في مجموعة واحدة بسبب التعقيد الذي بدأ يطرأ على بنية الدولة وأجهزتها من جهة، وتخلخل الأعراف الدستورية بشكل واضح بسبب ظهور النظريات المعادية لتفرد الملوك وسيطرة الكنيسة من جهة أخرى، وأما العامل الثاني وهو العامل الجوهري الذي أضفى على الدستور معناه الجديد فيتمثل في تبلور وشيوع اتجاه « جون لوك» و«جان جاك روسو» في نظرية العقد الاجتماعي التي تتلخص في اعتبار المجتمع ناشئاً عن عقد يبرم بين الأفراد المكونين لهذا المجتمع يتنازلون فيه عن حريتهم للمجتمع ككل أو «للسلطة العليا للإرادة العامة» حسب تعبير «روسو» نفسه، وبالتالي فإن أفراد المجتمع هم الذين يعطون السلطة لصاحب السيادة وينزعونها منه إذا أساء استعمالها. وكان نتيجة هذا الاتجاه العام ظهور الدساتير المدونة في الربع الأخير من القرن الثامن عشر في الولايات المتحدة بعد استقلالها، ثم في فرنسا بعد ثورتها، ليكون الدستور المدون أداة تنظيم المجتمع بعد أن كان العقد الاجتماعي أداة خلق المجتمع، أو يمكن القول بأن الدستور ما هو إلا النص المكتوب للعقد الاجتماعي المتفق عليه رضائياً بين أبناء مجتمع من المجتمعات. وشاعت الدساتير المدونة في الدول الأوربية تباعاً، ثم انتقلت إلى دول العالم كافة، حاملةً معها مفهوم الدولة القائمة على العقد الاجتماعي. ومما ساهم في تثبيت هذا المفهوم للدستور واعتباره شرط مشروعية أنظمة الحكم أن ميثاق الأمم المتحدة اشترط تنظيم السلطة بموجب دستور في كل دولة لكي يمكن قبولها عضواً في الأمم المتحدة، وبالتالي قبولها كجزء من المجتمع الدولي.
وهكذا، يمكن القول إن الدستور ليس مجرد نصوص تشريعية تنظم السلطة في الدولة، بل هو المعبر عن مشروعية الدولة وعن قبول الشعب لنظام الحكم القائم وموافقته على أسلوبه في الإدارة، ولأنه كذلك، فإن تغييره منوط بأبناء المجتمع الذين توافقوا عليه، كما أن تغيير بند من بنود أي عقد منوط بأطراف العقد مجتمعين. وهكذا فإن خروج السلطة الحاكمة في دولة من الدول على الدستور الذي أصبحت صاحبة السيادة بموجبه يخرجها من دائرة المشروعية إلى دائرة اغتصاب السلطة. أما اختراق السلطة للدستور وبقاؤها في السلطة دون معارضة جدية من المجتمع، فهو مؤشر على عدم مشروعية السلطة من جهة، ومؤشر على أن الدستور نفسه لم يعد معبراً عن عقد اجتماعي توافق عليه أبناء المجتمع من جهة أخرى، مما يفقد الدستور والسلطة القائمة بموجبه شرط المشروعية الذي هو شرط لازم لأحقية نظام ما في قيادة مجتمع من المجتمعات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 405