الشهادة الكاذبة.. جريمة مع وقف التنفيذ

ربما تكون جريمة الشهادة الكاذبة من أكثر الجرائم شيوعاً في سورية، حيث تحفل ملفات القضاء السوري بعشرات الشهادات المتناقضة حول الوقائع نفسها، وبعشرات الشهادات التي ثبت كذبها بصدور أحكام قضائية قطعية مناقضة لمضمونها . في حين نجد أن عدد الذين حوكموا وسجنوا بتهمة الشهادة الكاذبة عدد قليل جداً لا يتناسب مع خطورة هذه الجريمة ومدى تأثيرها على سلامة سير العمل في المؤسسات القضائية.

وتنص المادة "398" من قانون العقوبات السوري على اعتبار كل من شهد أمام سلطة قضائية بالباطل، أو أنكر الحق، أو كتم كل أو بعض ما يعرفه من وقائع القضية موضوع الشهادة، مرتكباً لجرم الشهادة الكاذبة. ولا يشترط لكي تستوفي الجريمة أركانها أن تؤدي إلى وقوع ضرر أو إلى إصدار حكم مخالف للحقيقة، بل يكفي أن يكون من شأنها أن تجعل الضرر محتمل الوقوع، وبالتالي فإن الشاهد يعتبر مرتكباً لجرم الشهادة الكاذبة سواء أخذت شهادته بعين الاعتبار أم لا، وسواء استند إليها القاضي في حكمه أو استبعدها كلياً. وهكذا فإن هذه الجريمة تعتبر واقعة بمجرد أن يدلي الشاهد بمعلومات خاطئة أو ناقصة قصداً أمام مرجع قضائي .
وتعاقب المادة السابقة نفسها مرتكب هذه الجريمة بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، وإذا أدليت الشهادة الكاذبة أثناء تحقيق جنائي أو أمام محكمة جنائية فيمكن أن تصل العقوبة إلى الأشغال الشاقة المؤقتة لعشر سنوات، كما لا يجوز أن تقل العقوبة عن السنوات العشر إذا أدت الشهادة إلى حكم ظالم بالإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة، بل يجوز رفعها إلى الأشغال الشاقة مدة خمس عشرة سنة. وتعتبر هذه العقوبات القاسية في حد ذاتها مؤشراً على خطورة هذه الجريمة، ومدى الحزم الذي تعامل به المشرع مع من يتجرأ على ارتكابها.
ولا تتوقف محاكمة الشاهد الكاذب على ادعاء الشخص المتضرر من الشهادة الكاذبة، بل يجوز تحريكها من المحكمة المشهود زوراً أمامها، مما يشير إلى أن المشرع اعتبرها جريمة موجهة ضد المحكمة نفسها، وهذا في الحقيقة اعتبار صائب لأن الشاهد الكاذب يستهتر بالمحكمة بل وبالسلطة القضائية بأكملها عندما يتجرأ على الشهادة زوراًِ أمام قوس القضاء . كما يجوز تحريك الدعوى من النائب العام مما يشير إلى أن المشرع اعتبر أيضاً أن الشهادة الكاذبة اعتداء على المجتمع الذي تمثله النيابة العامة أمام المراجع القضائية.
وتؤدي الشهادة الكاذبة إلى تضليل العدالة وعرقلة سيرها، سواء من خلال صدور أحكام مخالفة للحقيقة، أو من خلال إهدار الشهادات المتناقضة، وبالتالي عرقلة عمل القضاء وتأخير الفصل في الدعاوى المنظورة أمامه، كما أنها تمس بهيبة القضاء واعتباره، وما يترتب على كل ذلك من إضعاف للسلطة القضائية على المدى الطويل.
ورغم كل ذلك نلحظ عدم الجدية في ملاحقة مرتكبي هذه الجريمة، إذ قلما تحرك النيابة العامة الدعوى بهذا الخصوص من تلقاء نفسها، كما يندر أن تحرك المحاكم الدعوى على من شهدوا زوراً أمامها بل تكتفي في الغالب بإهدار شهاداتهم عندما يثبت كذبها. وفضلاً عن كل ذلك فإنه حتى في الحالات التي يتم فيها تحريك الدعوى بجرم الشهادة الكاذبة، بناء على ادعاء شخصي ممن صدرت الشهادة الكاذبة إضراراً بمصالحهم،  فإن المحاكم لا تعاقب شاهد الزور في أغلب الحالات إلا إذا كانت شهادته قد ألحقت ضرراً فعلياً بالمدعي، مع أن إلحاق الضرر ليس شرطاً للعقوبة كما أسلفنا، بل إن شرط العقوبة هو الكذب المقصود أمام القضاء، أو بمعنى آخر اتجاه نية الشاهد إلى تضليل العدالة .
إذا كانت خطورة هذه الجريمة على المجتمع وهيبة القضاء هي مبررات السلطة التشريعية في فرض عقوبات قاسية على الشاهد الكاذب، فما هي مبررات السلطة القضائية في التهاون مع مرتكبي هذه الجريمة التي تعتبر واحدة من أخطر الجرائم المعرقلة لحسن سير العدالة والماسة بهيبة القضاء وسلطته ؟!!

معلومات إضافية

العدد رقم:
406