يوسف البني يوسف البني

تَضارُبٌ بين التوجيهات السياسية وتطبيقات الحكومة التنمية الريفية في مواجهة خطر ازدياد الفقر وعمقه وشدته

ارتفعت حدة الفقر في سورية في سنوات الخطتين الخمسيتين الأخيرتين، وازداد عدد الفقراء بشكل كبير، حيث تشير التقارير إلى أن 13-30% من مجموع السكان أصبحوا يعيشون تحت خط الفقر، أي أنه أصبح هناك حوالي 5.3 مليون مواطن يعانون من الفقر الشديد، ولا يستطيعون الحصول على الحاجات الأساسية من المواد الغذائية، وغيرها من مقومات الحياة المعيشية اليومية، وتظهر التقارير أن 62% من نسبة الفقراء في سورية تركزت في المناطق الريفية، وأن حدة الفقر ارتفعت في المنطقة الشمالية الشرقية، أي محافظات حلب، إدلب، الرقة، ديرالزور والحسكة، بريفها ومدنها، حيث وصلت نسبة الفقراء في هذه المحافظات إلى حوالي 36% من سكانها، بينما وصلت النسبة في المنطقة الساحلية إلى حوالي 30%، وانخفضت هذه النسبة في المنطقة الجنوبية إلى 24% فقط، وهناك تفاوت في توزيع الفقر بين هذه المناطق حيث أن النسبة الأعلى من الفقراء تركزت في المنطقة الشمالية الشرقية ووصلت إلى 58% من مجموع الفقراء في سورية.

تعددت أسباب الفقر وارتفاع نسبته في السنوات الأخيرة، فمنها ما هو موضوعي نابع من صميم العلاقات الاجتماعية، ومنها ما هو خارجي يتعلق بالتقلبات الاقتصادية في العالم وانعكاسها السيئ على المجتمعات، ولكن أهم هذه الأسباب هي السياسات الاقتصادية المتبعة في سورية، والنهج الليبرالي الذي أدى إلى التفاوت الكبير والتوزيع غير العادل للدخل بين أصحاب الأجور وأصحاب الأرباح، والذي لعب دوراً كبيراً في تعميق ظاهرة الفقر وزيادة عدد الفقراء، في ظل نشوء الأثرياء الجدد على حساب لقمة عيش الشرائح الكبرى من المواطنين، أما الأسباب الموضوعية فمنها المبادئ التي تبنى عليها العلاقات في المجتمع، كعدم المساواة بين الأفراد، وقلة الاهتمام بتقديم خدمات الرعاية الصحية والتعليم، والتمايز الكبير الذي يزيد الفجوة بين الطبقات، ما يؤدي إلى عدم المشاركة الفعلية بين جميع أفراد المجتمع، وكل هذه الأسباب مجتمعة أنتجت السبب المباشر والرئيسي لظاهرة الفقر، وهو البطالة، من هنا فإن أي حل يمكن أن نفكر فيه لمعالجة الفقر يجب أن يرتكز على إيجاد الوظائف ومختلف مجالات العمل، من أجل تفادي الانعكاسات السلبية لظاهرة الفقر على كافة المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية أيضاً.
وجهت القيادة السياسية إلى ضرورة العمل الجاد لمعالجة القضايا كافة، وخاصة تنمية الريف وحل مشاكل الشباب وتمكين المرأة من أخذ دورها في المجتمع، والتركيز على محاربة الفساد والمفسدين، والعمل على مناحي الحياة كافة التي من خلالها يمكن معالجة ظاهرة الفقر. وفي هذا المجال كانت السيدة الأولى قد قالت: «كانت القرارات والسياسات تأتي في سورية من الأعلى إلى الأسفل، أي من الحكومة إلى الشعب، واليوم نحاول أن نعكس هذا الشيء، وأن نشجع المواطن ليحدد احتياجاته وليعرف كيف يستطيع تحقيقها، والحكومة يجب أن تكون جاهزة لتحول هذه المطالب إلى واقع»
وبالفعل، فقد قامت السيدة الأولى بزيارة 80 قرية من القرى السورية الفقيرة، واستطاعت معرفة أسباب الفقر والحاجة، وتوصلت إلى نتيجة حقيقية وواضحة، وهي ضرورة العمل على تنمية الريف السوري.

تنمية المنطقة الشرقية من الأولويات
من هذا المنطلق كانت هناك مخططات ومشاريع تهدف لتحقيق التنمية المتكاملة للسكان الريفيين، وخاصة في المحافظات الشرقية، وتحويلها إلى بقعة نماء حقيقي، ورفع مستوى الدخل وتعزيز معيشة السكان المحليين، واجتثاث الفقر وتقوية مبادئ المساواة، وتأمين تنمية إقليمية متوازنة، عن طريق حل مشاكل الأسر الفقيرة المعدمة، التي لا تملك أراض زراعية، وتهاجر بحثاً عن لقمة العيش، وكذلك تأمين احتياجات الشباب الذين يبحثون عن فرص العمل، وانطلاقاً من هنا فقد كان من المفترض أن تكون الخدمات المقدمة من الوحدات الإرشادية أساسية لتحقيق هذه الأهداف، من أجل تأمين العمل بالمهن اليدوية المتوفرة، وخاصة للنساء الريفيات، في خطوة جادة لتحسين دخل الأسر الريفية، ورفع مستوى معيشتها للتخفيف من ظاهرة الفقر.
 
بنية وهيكلية الريف السوري المطلوب تنميته
تفتقر سورية إلى خطوات جادة للسير على طريق التطور في عملية التنمية الشاملة، إن كانت في المنطقة الشمالية الشرقية أو الساحلية أو الإقليم الجنوبي، بسبب فقدان الكثير من العوامل الأساسية للتنمية الريفية، كتوفير مياه الشرب النقية والكهرباء وشبكات الصرف الصحي والخدمات الصحية والتعليم، وانعدام فرص العمل، ما ينمي رغبة كبيرة عند سكان المناطق الريفية بالهجرة إلى المدينة، بهدف العمل وتحسين الدخل ومستوى المعيشة، ويأتي طلب العمل هدفاً في المرتبة الثانية. ويشكل السكان الريفيون في سورية نحو النصف من إجمالي عدد السكان، ونسبة النساء منهم تبلغ 51%، وبذلك تكون هي قوة العمل الرئيسية والفاعلة في الريف. ولا ينفصل واقع المرأة الريفية عن الواقع العام الذي تعيشه، وتكون صورة معبرة عنه سواء في تطويره أو تخلفه، وهذا ما يجعل من تنمية المرأة هدفاً أساسياً لا ينفصل في حقيقته عن مخططات تنمية الريف، لأنها تعتبر المنطلق الأساسي والأداة الفاعلة فيه، ويشكل اندماج المرأة في عملية التنمية الريفية شرطاً ضرورياً لاستمرار هذه العملية، التي تعتبر من الأولويات الهامة لأي مجتمع يسعى إلى التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والحضاري.
 
التنمية الريفية بين الأمس واليوم
تحققت خلال العقود الماضية بعض الإنجازات البسيطة على طريق التنمية الريفية، ولكنها لم تفلح بالوصول إلى مستوى من المعيشة يوقف هجرة الريفيين إلى المدن، وتم إنشاء الوحدات الإرشادية في الأرياف لتشغيل النساء الريفيات، وكانت هذه خطوة على طريق تحسين دخل الأسر الريفية ومستوى معيشتها، ولكن الحكومة في خطتها الخمسية الأخيرة اخترعت بدعة اقتصاد السوق «الاجتماعي» الذي يقوم على مجموعة إجراءات اقتصادية واجتماعية تساعد على تكديس الثروة في أيدي قلة قليلة من المتنفذين، على حساب الشرائح الكبيرة من المواطنين، ومن أجل الوصول إلى ذلك اعتمدت على تصعيب الحياة المعيشية اليومية على عموم المواطنين، عبر القرارات والإجراءات الهادفة إلى تحرير الأسعار وتخلي الدولة عن دورها الرعائي، مثل قرار رفع الدعم عن المحروقات، الذي تسبب بارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات، وأدى إلى ضرب الصناعة والزراعة، وإفقار شرائح واسعة من المواطنين، لمصلحة القلة الغنية، وقامت بتحرير الأسعار دون وضع ضوابط أو نواظم واضحة، متجاهلة أثر ذلك على عموم المواطنين، الذين ساءت حالهم أضعافاً مضاعفة، بسبب غلاء المواد الاستهلاكية اليومية من الخضار والبطاطا والفروج والمواصلات وإيجار البيوت وأقساط المدارس........
إذن فنحن مقبلون على خراب اجتماعي بسبب لهاث الحكومة للحاق بركب عولمة اقتصاد العالم وإعادة تشكيل القطاع الاقتصادي والتكيف الهيكلي، الذي فرض تأثيرات وتحولات في التنمية الاجتماعية، أدت إلى ازدياد الفقر في المناطق الريفية، وازدياد عدد الأسر الفقيرة، على الرغم من مشاركة المرأة في تحقيق الدخل والأمن الغذائي لأسرتها، ما اضطرها إلى تحمل أعباء أكثر وأكبر.
 
إنهاك الوحدات الإرشادية وصولاً إلى تصفيتها
أقامت الدولة في ثمانينات القرن الماضي، ضمن توجهات البحث عن عوامل تساعد على تنمية الصناعات الريفية والاجتماعية، وحدات إرشادية لصناعة السجاد في المحافظات، تعود إدارياً لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. وأعطيت هذه الوحدات اهتماماً مادياً وإدارياً، وتم تشغيل النساء الريفيات فيها لدعم دخل الأسر الريفية وتحسين مستوى معيشتها. وسجلت نتائج عالية في صناعة السجاد اليدوي، الذي فاق السجاد الهندي والإيراني. وعلى مر السنوات تعرضت هذه الوحدات وعاملاتها للإهمال الإداري، ولم يتم تسجيل العاملات بالتأمينات الاجتماعية، إلا ما ندر، وبقيت العاملات بدون عقود وظيفية، وبلا طبابة مهنية أو ضمان، علماً أنه هناك بعض العاملات اللواتي أمضين ما يقارب 25 سنة في هذه الوحدات في مختلف المحافظات.
وبالإضافة إلى الإهمال الإداري، تواجه صناعة السجاد اليدوي خطراً حقيقياً وصل إلى حد الجريمة بتصفيتها وانقراضها، فقد اتخذت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل قراراً بإغلاق هذه الوحدات وتسريح العاملات فيها، على الرغم من توافر المواد الأولية المنتجة محلياً لهذه الصناعة التقليدية العريقة الموغلة في القِدَم، إضافة إلى وجود أيدٍ عاملة كثيرة وخبيرة، وبأجور رخيصة، وهذه الوحدات تعتبر مراكز إنتاجية وحيوية للسجاد اليدوي السوري، الذي يمتاز بمواصفات عالية من الجودة والإتقان والجمال.
وكانت حجة وزيرة العمل بإغلاق هذه الوحدات هو كساد المنتج وانعدام الطلب عليه، علماً أن المخزون في المستودعات التابعة لوزارة العمل يتم تصريفه، ولم يبق سوى ما يعادل بقيمة 10 مليون ليرة سورية.
 
خطورة حل الوحدات الإرشادية وتسريح العاملات
حول هذه الخطوة المدمرة لهذه الصناعة العريقة، والتي أدت إلى تشريد العاملات فيها، وحرمانهن من دخولهن البسيطة التي يحاولن من خلالها تحسين مستوى معيشتهن اليومية، كان لنا لقاء مع المناضل النقابي البارز إبراهيم اللوزة، الذي شرح لنا مخاطر هذه الخطوة وانعكاساتها السلبية على برامج التنمية الريفية، حيث قال:
«إن هذا القرار يعتبر جريمة سافرة بحق العاملات الريفيات، ويناقض كل التوجيهات السياسية لإيجاد الآليات المساعدة لإنعاش الريف السوري، وتحسين مستوى معيشة المواطنين فيه، فالوحدات الإرشادية تحل مشكلة العاملات الريفيات، وتقدم للاقتصاد الوطني مبالغ كبيرة، حيث كان إنتاجها يصدر للخارج ولعقود طويلة، لأن صناعتها تطورت حتى باتت تضاهي السجاد الإيراني والهندي، وقدمت السجاد والبسط من أفخر وأفضل النوعيات»
«بلغ عدد الوحدات الإرشادية على مساحة الريف السوري 173 وحدة إرشادية، وعدد العاملات الريفيات فيها بلغ 4300 عاملة، أي أنهم يساهمون بتحسين دخل 4300 أسرة ريفية، وشكلت هذه الوحدات جزءاً هاماً من الاستقرار في الحياة الريفية، وكان من المفروض أن تتطور صناعة السجاد اليدوي، والألبسة التقليدية التراثية الفلكلورية لكل منطقة، وهكذا تفعل جميع الدول، بما فيها المتطورة صناعياً، لأن هذه الصناعة قدمت مبالغ طائلة لخزينة الدولة، فقد كان المواطنون يشترون من مخازن وزارة العمل، وكان قسم من المنتج يصدر للخارج، وسجلت كثيرٌ من هذه الوحدات أرباحاً جيدة في بعض المحافظات، حتى مع وجود بعض الوحدات الإرشادية القليلة جداً، التي كانت خاسرة أو متوقفة».
«وزارة العمل أغفلت مصالح العاملات الريفيات وحلت الوحدات الإرشادية، وإن هذه الخطوة تعرقل المخططات الجادة الساعية لإنعاش الريف وتنميته، وتحسين مستوى معيشة المواطن فيه، فتسريح العاملات في الوحدات الإرشادية خطأ كبير، كان يجب  ألا يحدث، وهذا نضعه برسم السيد رئيس الوزراء كون وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل تتذرع أمام رئيس مكتب العمل، أنها أخذت التوجيهات منه بالذات».
«فلماذا كل هذه الإجراءات الحكومية السيئة بحق العمال؟ إن هذه الإجراءات والقرارات والتصريحات التي تصدر هنا وهناك، تظهر بعض المسؤولين وكأنهم يتلقون تعليماتهم من البنك الدولي، أو كأنهم موظفين لدى هذا البنك. من هنا، ومن منطق الدفاع عن مصالح ومكاسب الطبقة العاملة، التي هي حاملة لواء حماية الاقتصاد الوطني ورافعته الأساسية، فنحن نطالب بمحاسبة كل من يستهين بمصالح العمال وحقوقهم المشروعة، الإنسانية والقانونية، وخصوصاً إلغاء المرسوم /49/، ومحاولات تعديل قانون العمل وقانون التأمينات بما يتناسب مع مصلحة أرباب العمل فقط، وتحريض  أرباب العمل على عدم دفع التأمينات للعمال».
 
أين الأفعال من الأقوال؟
إن وضع الريف السوري الفقير، هو إحدى محطات الاختبار لقدرة الحكومة السورية، من خلال خطتها الخمسية العاشرة، وخطتها الخمسية المقبلة، على تعديل وضع الحياة المعيشية في الريف، فعلياً لا نظرياً، عبر تبني سياسات تنموية شاملة على مستوى البلاد، وسياسات جزئية على مستوى ريف المحافظات الفقيرة، لحل مشكلة الفقر المنتشر، الذي وصل إلى مرحلة تهدد الأمن الاجتماعي المرتبط عضوياً بالأمن الوطني، من هنا لابد من قرار سياسي بإعادة النظر في توزيع الدخل الوطني، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال اجتثاث قوى مراكز الفساد الكبرى، في جهاز الدولة وخارجه، لأن تجاهل هذه المخاطر سيفضي حتماً إلى المزيد من التوتر الاجتماعي، وإضعاف الوحدة الوطنية، لمصلحة أعداء الداخل والخارج....

معلومات إضافية

العدد رقم:
408