فرج أبو فخر فرج أبو فخر

في ذكراها الرابعة والثمانين.. «المزرعة» مواجهة لا تتوقف..

لئن تصيب ذاكرة الناس بالغفلة والذهول، فإن ذاكرة الأمكنة العصية على النسيان تبقى الأدرى بتفاصيل الأحداث، التي احتضنت مجرياتها.

و((المزرعة)) التي تجنح غربي السويداء، مازالت جنباتها، منذ أربعة وثمانين عاماً، تزهو بالنصر على المستعمرين الفرنسيين، مطرزاً بدماء طاهرة على بيرق لن ينكس أبداً. ولعل ناسها، فلاحيها لم تصب ذاكرتهم بالنسيان. فقد ظلت وقائع معركة المزرعة ودروسها، جوهر الجوهر في مخزون ذاكرتهم الشعبية. تلك الوقائع التي لن نغوص في تفصيلاتها أحداثاً واستنتاجات. لأن حيزاً صغيراً في (قاسيون) لن يفيها حقها، إنما سنكتفي بشهادتين تاريخيتين بهذا الصدد، الأولى: للقائد العام للثورة السورية الكبرى «سلطان باشا الأطرش» والثانية: للمؤرخ السوفياتي «لوتسكي». ففي الكتاب الصادر عن دار طلاس (أحداث الثورة السورية الكبرى، كما سردها قائدها العام سلطان باشا لأطرش)، يذكر سلطان باشا الأطرش: (إن الفرنسيين الذين أذهلهم انتصارنا المؤزر في الكفر، وحصارنا الشديد لقلعة السويداء، قد أخذوا يجمعون قوات عسكرية كبيرة في محطة «إزرع» الحورانية لغزو الجبل وتدميره....)، ويتابع الرد على وساطة لوقف القتال: (إننا لم نعلن هذه الثورة كي نلزم الهدوء والسكينة ونرضخ لشروط الفرنسيين. إننا أعلنا الثورة لنصون الكرامة والعرض ونحقق بحد السيف استقلال البلاد). ويضيف: (في صباح الحادي والثلاثين من تموز، كانت بداية المعركة الأولى بيننا وبين الحملة الفرنسية، التي وصلت تقهقرها إلى مشارف بصر الحرير). ويتابع: (عند وصولنا إلى نبع المزرعة التقينا المجاهد حسين مرشد، ومعه نفر من الثوار. فأفاد بأن طريق السويداء - المزرعة، قد سدَّها بعض أهالي السويداء، وأنهم أقسموا على عدم التزحزح من مواقعهم  ولو مرت آليات الجيش الفرنسي على أجسادهم...). ثم  يصف الانطلاق إلى المزرعة: (تحركنا من قرية سليم عند بزوغ الفجر، يوم الاثنين الثاني من آب عام 1925، وحين وصلنا إلى المزرعة، وجدنا الحملة الفرنسية في حالة تأهّب واستعداد، لتستأنف زحفها نحو مدينة السويداء). ثم يسهب في الحديث عن وقائع المعركة، وكيف أن بيرق السويداء وبيارق القرى، قد أخذت تضع ثقلها في ميدان القتال. ويضيف: (كنت أسمع من مكاني، وأنا أراقب سير المعركة، أصوات النخوة الهادرة تنطلق من حناجر المجاهدين...).
أما الشبان، فينصفهم قائلاً: (كان الشبان يتربصون بالمدرعات، ويكمنون لها، حتى إذا اقتربوا منها، قلبوها بأكتافهم، وقتلوا سدنتها بخناجرهم ومسدساتهم، وأحرقوها). إلى أن يقول بعد حسم المعركة لمصلحة الثوار، واندحار حملة ميشو: (لقد اندحرت الحملة الفرنسية اندحاراً كاملاً، وتبعثرت جثث قتلاها وهياكل مدرعاتها وآلياتها المختلفة وأسلحتها الثقيلة بين السهول الممتددة من المزرعة شرقاً، حتى قرية الدور ومشارف بصر الحرير غرباً).

ومن المعروف أن الروايات قد اختلفت في قوام حملة ميشو، وكذلك في تقدير خسائرها في المعركة. وفي هذا السياق، يذكر أن المجاهد الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في مذكراته: (زرت ساحة هذه المعركة مراراً ، وحاولت أن أحصي عدد الجثث الملقاة فيها، فلم أفلح لسعتها ).
أما المؤرخ ظافر القاسمي فيعلق على انتصار المجاهدين في هذه المعركة قائلاً: (كتب النصر المبين فيها للمجاهدين، على شكل يكاد يكون أقرب إلى الأساطير منه إلى الحقائق). وعلى الصعيد الفرنسي يوضح سلطان باشا الأطرش تأثير الانتصار وصداه في الأوساط الفرنسية فيقول: (لقد تأكد لنا فيما بعد كارثة الحملة الفرنسية في المزرعة «أن المعركة» لم تقلق الدوائر الفرنسية العليا في الشرق فحسب، وإنما شغلت بال الحكومة الفرنسية نفسها، ونوقش موضوعها في البرلمان الفرنسي، واهتمت بها كبريات الصحف الباريسية، ونشرت أخبارها وعلقت عليها).

أما المؤرخ السوفياتي لوتسكي، فيصف مجريات الثورة في كتابه (الحرب الوطنية التحررية في سورية 1925 - 1927) ويقول: (بفضل الشجاعة منقطعة النظير التي أبداها الفرسان، وبفضل التكتيك الذي اتبعوه، حيث انقضوا على وسط القافلة، وقطعوا مقدمتها عن مؤخرتها وتمكنوا من الاستيلاء على عتادها وذخيرتها، وأثاروا الرعب في صفوف الغزاة الذين أخذوا يلوذون بالفرار. فر الجنرال ميشو نفسه في سيارة مدرعة، وأطلق قائد المؤخرة الجنرال /جاك/ النار على رأسه، كي لا يقع أسيراً في أيدي الثوار، وانتقل العديد من الجنود (الملونين) إلى صفوف الثوار أو فرّوا من ساحة المعركة). وعن أهمية الانتصار يقول لوتسكي: (كان لانتصار المزرعة نتائج سياسية بالغة الأهمية، فقد عرف العالم كله بالانتفاضة. وحاول الإمبرياليون الفرنسيون إظهار الأمر وكأنه (حادث محلي) عابر لن تنجم عنه أية نتائج خطيرة). ويتابع: (أدت نتائج حملة ميشو إلى تردي مواقع الفرنسيين في دمشق)، إلى أن يقول: (سارع  الجنرال ساراي بالدخول في مفاوضات سلام مع الثوار في الجبل من أجل إعاقة تحركهم، والحيلولة دون امتداد الانتفاضة إلى الشمال، وكذلك لكسب الوقت لوصول التعزيزات إلى سورية). وهكذا انتهت جولة من جولات الجهاد ضد المستعمرين الفرنسيين لتتبعها فيما بعد جولات وجولات توّجت بالاستقلال التام عام 1946.
تحية لذكرى موقعة المزرعة المفخرة الوطنية لشعبنا، الذي مازال يتجه في بوصلته نحو المقاومة الشاملة رغم أعداء الداخل والخارج، موقناً بأن النصر حليفه لا محالة..

معلومات إضافية

العدد رقم:
414