يوسف البني يوسف البني

تقنين الكهرباء بين العشوائية وانعدام الحلول التقنين إذلال للمواطن أكثر مما هو خطة لتوفير الطاقة

عادت جميع المحافظات السورية إلى المعاناة من انقطاع التيار الكهربائي منذ بداية شهر تموز، بعد أن توقفت برامج التقنين لفترة قصيرة. وكانت وزارة الكهرباء قد بدأت بقطع الكهرباء عن مختلف المناطق السورية وبالتناوب، ضمن برنامج تقنين يتضمن ساعتين يومياً، وذلك منذ بداية شهر كانون الأول في العام الماضي، ولكن مخطط التقنين لم يُنفَّذ كما هو مرسوم، ولم تلتزم مؤسسات الكهرباء في مختلف مناطق سورية بالبرامج التي تم الإعلان عنها، فقد تطاولت الانقطاعات حتى بلغت الأربع أو خمس ساعات، وقد تنفذ على فترتين صباحية ومسائية، ويختلف توقيتها بين يوم وآخر، وقد تتضمن فترات إضافية عشوائية ليست بالحسبان، ما أدى إلى الكثير من الإرباكات والمشكلات التي أثرت على حياة المواطنين بشكل سيء...

 هيا إلى الشموع
من ينظر إلى دمشق من على قمة قاسيون مساءً يكتشف عمق المأساة التي يعيشها المواطنون السوريون عموماً وساكنو معظم أحياء العاصمة على وجه الخصوص، فثمة بقع مظلمة موزعة بشكل عشوائي في مختلف الاتجاهات لا يبدو منها إلا سوادها. هذه البقع يسكنها بلا شك عشرات، وربما مئات آلاف المواطنين، لا ذنب لهم في الظلمة المفروضة عليهم في أوقات غير منتظمة سوى أنهم مواطنون سوريون، وأن المسؤولين عن إنارة حياتهم وبيوتهم وتأمين الطاقة لأدواتهم الأساسية ووسائل عيشهم غير جديرين بالمهمة المنوطة بهم.. ففي الوقت الذي تسعى فيه معظم دول العالم وحكوماته للسير نحو مزيد من توفير الخدمات والحاجات لمواطنيها، تقوم الحكومة السورية بمعاقبة أبنائها على صبرهم وتحملهم وتكفلهم بكل متطلبات الصمود، بحرمانهم من أبسط حاجاتهم الإنسانية، وتقاعسها عن إيجاد حلول دائمة لمتطلباتهم المتزايدة من الخدمات..
وبالتالي، ما على هؤلاء إلا القبول قسرياً باللجوء إلى دكاكين السمانة لشراء الشموع، والتمتع هم وأبناؤهم بظلالها الكبيرة المهتزة على الجدران، بدل قراءة كتاب أو متابعة فيلم أو نشرة أخبار أو الجلوس على الأنترنيت.
 
خيار وفقوس
كما في كل شيء تقريباً.. كما في المؤسسات الحكومية، وفي طوابير الهاتف والماء والكهرباء وترسيم السيارات، كما في الوظائف العامة والبعثات والامتيازات والمقاعد الجامعية، كما في المطاعم والفنادق والمدارس والرواتب... وغيرها وغيرها.. هناك خيار وفقوس في الكهرباء.. هناك مناطق لا تعرف التقنين اليوم، كما لم تعرفه منذ أن درج في ثمانينات القرن الماضي إبان الحصار السياسي والاقتصادي الذي عانت منه البلاد.. أبناء هذه المناطق المدللة مازالوا يتمتعون بمكيفات شققهم وفيلاتهم الواسعة، ويتلذذون بمياههم المثلجة وأطايب براداتهم، ويستنيرون بكلوباتهم الفاخرة.. وبالمقابل هناك مناطق يفعل التقنين فعله فيها صبح مساء.. ساعات طويلة هي حصيلة التقنين في أسوار الفقر، في السكن العشوائي الذي يؤطر المدينة ويتغلغل بها، في الأحياء الشعبية، في الريف القريب والبعيد.. بشر يكدحون طوال النهار في المصانع وأعمال البناء والورش المهنية والحرفية لا يجدون مساء ما يثلج قلوبهم، ولا يتمكنون من متابعة مسلسل محلي أو موجز أخبار.. هؤلاء لا يشعرون بالظلم وحسب، بل باتوا، وقد ضاقت عليهم الدنيا وتردى مستوى معيشتهم لحدود غير مسبوقة، يشعرون بالاختناق، ووصل الاحتقان في دواخلهم إلى درجة لا تطاق.
ومن يريد أن يعرف الخريطة الطبقية (كهربائياً) في العاصمة وأطرافها، ما عليه إلا الوقوف على تلال قاسيون والتأمل قليلاً في الأفق المتباين الألوان. وربما لا ضرورة للتذكير في هذا الإطار أن الفرز الطبقي مستمر بوتائر عالية في كل المجالات والمناطق..
 
شهادات شامية حية
- المواطن علي من سكان حي الـ86 في دمشق يقول: «وحياة الله العيشة ما عادت تنطاق.. يعني لإمتى بدنا نظل بالعين الموس عالحدين؟ ما بيكفي إنو كل شي بحياتنا خربان؟ من وين طلعولنا بقصة التقنين؟ ناقصنا»؟.. ثم راح يشكو من عدم انتظام التقنين أو معرفة أوقاته ومناطقه بدقة، ففي الصحف يكتبون «التقنين من الساعة كذا إلى الساعة كذا في قسم من حي الـ86»، فكيف يعرف المواطن الساكن في الحي أي قسم يقصدون؟
- خالد، ويقطن في قدسيا، يقول: «أحاول أن أقضي معظم وقتي خارج المنزل لأن الحياة في بيت العائلة دون كهرباء لا تطاق، فبيتنا صغير وتهويته سيئة»..
- اسماعيل، يعمل في مركز تحضير طباعي في العاصمة، يقول: «نرتبك كثيراً في العمل، فلا أوقات واضحة ومعروفة للتقنين، حيث تنقطع الكهرباء فجأة ودون إنذار مسبق، (وكل يوم شكل)، وحين يعود التيار يبقى دائماً في حالة غير منتظمة مما يشكل لدينا إحساس دائم بالقلق.. وبالنسبة لنا لا يمكننا تركيب مولدة خاصة لأن ترخيص منشأتنا إداري».
- أبو فهد، وهو من سكان ركن الدين، يقول: «المشكلة الأساسية لدينا هو عدم معرفتنا بمواعيد التقنين، وأحياناً يترافق قطع التيار مع عودة الموظفين والعمال من أشغالهم، وبعضهم لا يستطيع صعود الأدراج لأسباب صحية.. ولكن ماذا بوسعه أن يفعل إذا كان المصعد لا يعمل؟.. ثم إن المسألة باتت بحاجة إلى حل جذري، فمن المعيب أن تبقى هذه المشكلة قائمة منذ عقود دون أن يجد المسؤولون لها حلاً دائماً وجذرياً.. لقد باتت بلدنا في ذيل القائمة.. فإلى متى؟»..
 
مواقف المواطنين من برامج التقنين
كيف تنعكس معظم ممارسات الحكومة على الحياة اليومية للمواطنين؟! وما هي مواقفهم تجاه هذه الممارسات؟! هل تنطلي عليهم الحجج والتأويلات واختراع أسباب غير مقبولة؟! إن المواطن يعيش في القرن الحادي العشرين، والحكومة تعامله على أنه مازال يعيش في عصور «الظلام»، لا بل هو يعرف جزءاً كبيراً من الحقائق، ويتساءل ليعرف القسم الباقي منها، البعيد عن الذرائع والحجج التي لم تعد تقنع أحداً. وللوقوف على حقيقة مشاعر المواطنين من برامج التقنين، كان لنا لقاءات هاتفية مع مراسلينا في المحافظات، الذين أفادونا بما يلي:
ـ في اللاذقية تنقطع الكهرباء فقط في الأحياء الشعبية، التي تدفع ضريبتها وضريبة غيرها من الأحياء (الراقية)، التي يتواجد فيها أصحاب النفوذ والمحسوبيات، ففي الأحياء الشعبية تنقطع الكهرباء يومياً خمس ساعات، بالتناوب بين حي وآخر، مع أن المعلَن تقنين ساعتين فقط، بينما لا تنقطع نهائياً في الأحياء (الراقية). كالكورنيش الشمالي والطابيات (الكورنيش الجنوبي)، بحجة دعم السياحة.
يعلنون عن وقت القطع والتقنين في جريدة الوحدة، ولكنهم لا يلتزمون. فساعات القطع أكثر من المقرر، وفي غير موعدها، ولم يعد المواطن يدرك متى تنقطع ومتى تعود، وهذا ما يسبب خسائر كبيرة للمواطنين، فالانقطاع المفاجئ والعودة المفاجئة تحرق الأدوات الكهربائية المنزلية، وكثير من العائلات خسرت برّاداتها وتلفزيوناتها، فعند العودة إما أن يكون الفولتاج عالياً جداً، أو ضعيفاً جداً جداً.
أما في طرطوس فبرنامج التقنين جعل المحافظة في حالة فوضى شاملة، لأن فترات الانقطاع طويلة وغير مبرمجة ووصلت في بعض الأحيان إلى أربع أو خمس ساعات، وفي فترات غير معلومة مسبقاً، وهذا ما يضر ويقلق المواطن، ويسبب اضطراب حياته اليومية وعدم استقراره. والمواطنون يتساءلون وكأنهم غرباء في هذا الوطن: «ما سبب قطع الكهرباء؟ ولماذا التقنين ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين؟!!». في الأسبوع الأخير خفت الفوضى وثبت القطع على ساعتين فقط، ولكنه بقي غير منتظم، فهل يا ترى سنصل يوماً إلى عدم القطع نهائياً؟!!
كذلك الأمر في ديرالزور والحسكة والمنطقة الشرقية والجزيرة بشكل عام، فقد خفَّت ساعات التقنين في الأسبوع الأخير، بعد أن كانت تصل إلى حد المأساة، فقد كانت تنقطع أربع إلى خمس مرات يومياً، وفي كل مرة ساعتين، أو ساعة على الأقل، ما جعل حياتنا جحيماً لا يطاق، ولكن في الأسبوع الأخير أصبحت ساعتين فقط، مع أن الوزارة كانت قد وعدت أنه سينتهي التقنين اعتباراً من 3/8...
ولم تختلف الحال في المحافظات الجنوبية والوسطى والشمالية، فالتذمر والسخط هو لسان حالة المواطنين الذين ذاقوا الأمرين جراء الانقطاع العشوائي وغير المنتظم للكهرباء، ولفترات طويلة. فإضافة إلى الظلمة، إذا كان الانقطاع ليلاً، واحتراق وتخريب الأدوات المنزلية الكهربائية، بسبب الانخفاض الشديد لشدة التيار أو الارتفاع الشديد أحياناً أخرى، فإن المهن اليدوية المتعلقة بالكهرباء، كلها تتعطل، وغالباً ما تكون الخسارة نصف يوم عمل على الأقل يومياً، وخسر الذين «خبؤوا قرشهم الأبيض إلى يومهم الأسود» قروشهم، فكثير من الذين وضعوا مؤونةً من أيام اليسر في البرادات والمجمدات، فقدوا مؤونتهم بسبب ذوبان الجليد عنها، فرموا آمالهم وملاذهم من القلة والعوز، وخزائن أمنهم الغذائي الصغيرة في علب النفايات.
مواطن تكلم حول الأزمة بشكل ساخر فقال: «من يستطيع أن يسائل الحكومة لماذا تفعل كذا ولا تفعل كذا؟! أساساً المواطنون السوريون طيبون جداً ومتسامحون، ولكن هذه الصفة في هذه الأيام تعني (ساذجون وعلى البركة)، فإذا انقطعت الكهرباء صباحاً يقول أحدنا: «ماشي الحال، مليح اللي مو طقّة الظُهر عند الشوى والكوى»، وإذا انقطعت ظُهراً يقول: «خيّ، مليح اللي انقطعت بعد ما خلّصنا الطبخة، كنا طلعنا اليوم بلا أكل، ومليح اللي ما راح تقطع بالسهرة»، وإذا انقطعت بالسهرة، ساعتها بيصيح: «.... هالحكومة».
 
تساؤل مشروع... ولكنه خطير!
رغم الواردات والعائدات الكبيرة التي تدخل خزينة وزارة الكهرباء، فإن التقصير في تطوير توليد الطاقة مازال مستمراً، منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، فما هو المقصود من إبقاء وضع الكهرباء على هذه الحال؟! هل المقصود هو إظهار متعمد لعجز الدولة عن حل مشكلة الكهرباء، كي يكون لها الحجة والذريعة للبحث عن حلول في غياهب القطاع الخاص؟! لتصل أخيراً إلى طرح قطاع الكهرباء الهام للخصخصة والاستثمار؟! يبدو للكثير من المفكرين أن هذا هو المقصود، إلا أن وزارة الكهرباء تتخوف من فتح باب الاستثمار الخاص في الكهرباء نظراً للإرث الكبير، والبنى التحتية والأصول الضخمة، التي تملكها الوزارة من محطات توليد وخطوط نقل وتوزيع، بالإضافة إلى أربعة ملايين مشترك.
إن هذه الثروة الضخمة التي تظهرها وزارة الكهرباء وكأنها عديمة الفائدة، يمكن أن تعطي أضعاف البرامج التنموية النظرية، التي تخططها الوزارة لو أنها دُعِّمت من الواردات والعائدات النقدية الدورية، ولكن ليس هناك من يسعى جدياً لحل جذري لهذه المشكلة، بل هناك مَن لهم مصلحة في إبقاء الوضع على ما هو عليه، من اضطراب وسخط وتذمر، ساعين من وراء ذلك إلى تدمير الوحدة الوطنية الداخلية، بتدمير البنى التحتية الأساسية للدولة، فلنحذر من الركائز الداخلية، للمخططات الخارجية الرامية إلى أخذ سورية من الداخل، بتدمير بنيانها ووحدتها الوطنية...

معلومات إضافية

العدد رقم:
416