في مخيمات «لاجئي» محافظة الحسكة: ترحال مستمر... في الأرض اليباب!!

لم يكن الشيخ حمدان يتخيل أن حياته ستتحول في يوم من الأيام إلى جحيم لا يطاق، وأن يصل إلى هذه الحالة الصعبة من الفقر الشديد، وتهان كرامته أمام أولاده وأحفاده، وهو الآمر الناهي في قرية تبعد عن العاصمة مئات الكيلومترات. وكم كانت زوجته الحاجَة أم أحمد تتمنى الموت قبل أن ترى شيخ العشيرة ومصلحها الاجتماعي واقفاً على قارعة الطريق تحت أشعة الشمس الحارقة، والعرق يتصبب منه، بانتظار من يشغَّله عدة ساعات ليؤمن ثمن الخبز والبندورة في زمن ليس زمنه، وهو الذي عرف فيما مضى بكرمه وضيافته للغريب قبل القريب، عندما كانت  محافظة الحسكة بمثابة البقرة الحلوب للوطن في كل المواسم، لما اشتهرت به من تنوع في منتجاتها الإستراتيجية الأهم محلياً وعربياً.
 نعم، محافظة الذهب الأبيض والأسود والأحمر قد تحولت إلى منطقة جرداء بفعل السياسات الاقتصادية التي انتهجها الفريق الاقتصادي والحكومة طيلة السنوات الخمس الماضية، تارة تحت حجة الجفاف والانحباس الحراري، وتارة أخرى بحجة الأزمة الاقتصادية التي هزت العالم أجمع.

هجرة عكسية
يبدو أن عقارب الساعة قد تحركت بعكس اتجاهها المألوف، فالمحافظة التي كانت تستقبل  عشرات الآلاف من الأسر المهاجرة من المحافظات الغربية والوسطى، وخاصة في مواسم الحصاد، انقلبت فيها الآية، وقد تكون الآن على آبواب عودة غير محمودة إلى زمن البداوة والترحال، ونحن نعيش القرن الحادي والعشرين، قرن عصر التكنولوجيا والمعلومات والاتصال الذي بدل كل المعادلات والمقاييس، ولم يستطع أن يغير فينا إلا الجيد الذي كنا نفتخر به!!
 وعلى الرغم من أن «لاجئي» محافظة الحسكة قد ملؤوا شوراع دمشق وضواحيها فإن الحكومة لم تصدق كل ما قيل وكتب عن المحافظات الشرقية، والهجرة اليومية منها طيلة السنوات الثلاث الماضية، لا بل تنصلت في أحايين كثيرة عن مسؤوليتها عن عشرات الآلاف من المهاجرين الذين جعلوا من ريف دمشق وغوطتها ملجأً لهم ولعائلاتهم، في بيوت ملتصقة مع بعضها البعض، مصنوعة من أكياس الخيش وبقايا الأقمشة والحرامات، تتألف من غرفة واحدة تستخدم للنوم والجلوس والاستحمام واستقبال الضيوف!! إنها مخيمات أسوأ من التي لجأ إليها الفلسطينيون في سنوات النكبة، تتدنى كثيراً عن المقاييس العالمية لحالة الفقر التي وضعتها المنظمات والهيئات الدولية التي يقتدي بها الفريق الاقتصادي.
 
أرقام تفضح كل شيء
بمجرد وصول المرء إلى آخر نقطة تفصل بين محافظتي دير الزور والحسكة، يقرأ اللوحة المهترئة والمصدأة  كتب عليها «محافظة الحسكة ترحب بكم»، وبعد رحلة متعبة وشاقة مع عجاج الدير، يشعر فوراً بحجم الكارثة التي  أصابت المحافظة، فلا خضار ولا زرع، ومازالت سنتمترات القليلة من القمح تعلو عن سطح الأرض اليابس لتشي بما فعلت بها الطبيعة والبشر معاً.
لم يعد خافياً على أحد التقرير الدولي الذي نبه إلى أن  الصراعات الإقليمية المحتملة في الفترة القادمة ستكون للسيطرة على موارد المياه ومصادرها، وهنا كان على الحكومة أن تعير الاهتمام بالتقرير الذي أصدره المعهد الدولي للتنمية المستدامة، عندما أكد أن موجة الجفاف في العامين 2007 و2008، ستكون أكثر قساوة وضراوة، وستوجه ضربة قاسية إلى المناطق الريفية في سورية، وأكد التقرير أنه إلى حين أعداده والانتهاء منه وصل عدد القرى التي خلت من أسرها بشكل كامل إلى نحو 160 قرية، طبعاً عدا القرى التي هجرها كل شبابها ولم يبق فيها سوى الكهول والعاجزين، ففي قرية «تبكة» وحدها هاجرت /260/ أسرة تقريباً، حيث يعمل معظم أبناء هذه الأسر الآن في المطاعم والمقاهي، والبقية على البسطات، في حين ما يزال أباؤهم وأمهاتهم يعيشون في القرية.
 
من سير العجز الحكومي
في تصريح سابق لأحد رؤساء البلديات في إحدى المناطق التي يسكن فيها هؤلاء المهاجرون، أكد أن أكثر من /100/ ألف مواطن يسكنون في محيط ريف دمشق، وتحديداً في البلديات والمناطق التابعة لمنطقة دوما. هذا التصريح يوضح بشكل جلي أن المشكلة لم تعد مشكلة اقتصادية فقط، بل أخذت منحى آخر اجتماعياً قد تكون عواقبه وخيمة، وأكثر وأشد وطأة على الحكومة والمسؤولين الذين مازالوا نائمين في قصورهم، ولم يقفوا بشكل عقلاني وموضوعي على هذا الواقع الاقتصادي الاجتماعي المتأزم، وجاءت الخطط الجهنمية التي وضعتها الحكومة، وكحلتها بالشعارات التي أطلقت عن تنمية المنطقة الشرقية، لتزيد الطين بلة، فهذه الخطوات جاءت متأخرة جداً، وبعد أن ازداد الفقراء فقراً ومرضاً وتشرداً بسبب السياسات والقرارات التي اتخذتها الحكومة منذ أن بدأت بالخطة الخمسية العاشرة وحتى الآن، وما رافقها من قرارات جاءت كلها لمصلحة الرأسمال وضد الفقراء، بدءاً من قرار رفع الدعم عن المحروقات الذي لعب دوراً مهماً في تقليص مساحة الأراضي الزراعية المروية، وانتهاءً بقرار تحرير الأسمدة، مما حول الفلاح إلى لقمة سائغة في فم التجار وأصحاب رؤوس الأموال الذين ابتلعوا الأخضر واليابس.

ما تبقى من كرامة المواطن
على الرغم من اتهامهم بإثارة  المشاكل، وإطلاق أسوأ الألقاب والنعوت عليهم، فإن كل ذلك لم يدفع اللاجئين  إلى كراهية أهالي المناطق التي يسكنون فيها، وعندما دخلت «قاسيون» إلى المخيمات كانت عالمة بكل بواطن الحياة التي يعيشها هؤلاء المواطنون، ولم تتفاجأ بمستوى الوعي لدى بعض من التقتهم.
يقول المواطن أ - ن بعد غصة في حلقه: «أنا هنا منذ ثلاث سنوات، ولم أر أي مسؤول منذ أن سكنت وعائلتي، انظر إلى وجوه الأطفال والنساء التي تشبه وجوه ضحايا المجاعات أو الحروب الأهلية... فقر مدقع ومعيشة يخجل الإنسان أن يتكلم عنها، لكنني مع ذلك أقول لكل من كان سبباً في هجرتنا أن كرامتنا مازالت أغلى من كنوز الدنيا كلها».
يتدخل مواطن آخر في النقاش فيقول: «انظر إلى هذه الخيمة التي اسكنها مع سبعة من أفراد عائلتي، ألا تخجل الحكومة  وهي ترى مواطنها يعيش هذه العيشة، لقد كان بيتي في القرية مؤلفاً من أربع غرف وصالون، ويتسع لأكثر من خمسين شخصاً». وعندما سألناه عن سبب هجره القرية قال: «لقد أغلقوا في وجوهنا كل الأبواب، حتى وصلنا إلى مرحلة الاختناق،  ففي البداية سمحوا لنا بحفر الآبار، وعند وضعنا ما فوقنا وتحتنا من أجل حفر البئر، منعونا من استخدام المياه في الزراعة بحجة شح المياه، فخسرنا البئر وثمن البذار والسماد، وتراكمت الديون علينا من كل الجهات، فلم يبق أمامنا سوى الهجرة إلى هنا».
أما الشاب م.س وهو متزوج منذ حوالي سنة ونصف فقال: «نحمد ربنا أن زوجاتنا تعودن على هذه الحياة، وإلا لكان نصفهن الآن مطلقات، فلا أحد يرضى بهذه المعيشة... عملت المستحيل لكي لا أنضم إلى أخواتي هنا، لكنني لم  أعد أستطيع تحمل العيش هناك بسبب هجرة أهل القرية بأكملهم إلى دمشق والمحافظات الأخرى».
 
بلا شرقية بلا غربية!!
المواطن ح.ع رغم حالته الصعبة طلب منا الدخول إلى خيمته وقدم لنا الضيافة اللازمة، وبعد ذلك قال لنا: «لو تركت لنا إمكانية، ولو كانت ضئيلة، للعيش في محافظتنا لما أتينا إلى هنا، فحتى المساعدات التي حولت إلينا ذهب نصفها إلى بعض المسؤولين، والنصف الآخر لا يعلم أحد كيف تم توزيعه»، وعندما قلنا له: «لماذا لم تنتظروا خطة الحكومة في تنمية المنطقة الشرقية؟» رد بعصبية: «بلا شرقية بلا غربية، وكل ما قيل كان حبراً على الورق، ولم نشاهد شيئاً مما قالوه، فالمناطق الصناعية التي تم الحديث عنها، ووعد بأقامتها في القامشلي والحسكة لم ينفذ منها شيء، بل أغلقت المصانع والمعامل الصغيرة التي كانت تشغل بعض المواطنين».
 
أنا سوري مكتوم القيد... آه يا نيالي!!
المواطن س.ع قال: «أنا  سوري أباً عن جد، ومع ذلك فأنا وأولادي السبعة وحتى أبي مكتومو القيد، ولا يوجد أي شيء يثبت شخصيتنا، وعلى هذا الأساس لم نستطع الاستفادة من الثلاثين دونماً التي أعطيت لنا، بسبب الجفاف وانتهاء الزراعة البعلية في مناطقنا، وعدم السماح لنا بحفر الآبار، وعندما طلبت من المحامي رفع قضية من أجل أن أنال الهوية السورية طلب مني /100/ ألف ليرة سورية في الوقت الذي لا أملك فيه ليرة واحدة في جيبي، ومنعت من كل ما يحق لي شرعاً، ولا أحد يعترف بوجودي، أنني اعتبر هذا جريمة بحقي وحق أولادي، وبناء عليه أصبحنا نشغل نساءنا بالزراعة في هذه المنطقة، فيذهبن من الصباح الباكر وحتى المغيب، وفي هذه الفترة نضع أيدينا على قلوبنا حتى يرجعن، لأننا ببساطة لا نعرف أين وجهتهن، وإذا كنا قد قبلنا لهن هذا العمل، فذلك بسبب عدم معرفتنا لأية مهنة سوى مهنة الزراعة، وهنا لا يشغلون إلا النساء في الزراعة، وبأبخس الأجور، مستغلين حاجتنا للمال، لكن مع كل هذا فأنا لا أتخلى عن انتمائي السوري الذي  أعتز به»
 
لم تتم معالجة الموضوع من أي مسؤول
أما أبو شفان الذي هرب من قريته في صبيحة أحد الأيام فقال: «لقد هربت بسبب الديون التي تراكمت علي، على الرغم من أنني أملك /150/ دونماً كنت أزرعها قمحاً وشعيراً، وأحياناً أزرع قسماً منها عدساً أو حمصاً، وفي السنوات الثلاث الماضية لم أحصد متراً واحداً منها بسبب الجفاف الذي ضرب المنطقة، ولو أني أمَّنت عملاً لي في المحافظة لما قدمت إلى هنا أبداً، وإذا وفت الحكومة بوعودها، رغم أنني أشك بذلك، فلن أبقى لحظة واحدة في دمشق، وسأرجع إلى قريتي رغم كل المعاناة والصعاب وضغوط الدائنين علي، لكن مع الأسف لم يتم معالجة الموضوع من أي مسؤول. أنا أدعو المسؤولين الحكوميين أن يأتوا إلى هنا عند صلاة الفجر، أي بعد الساعة الرابعة، ليروا بأم أعينهم أفواج النساء والفتيات والأطفال على طرفي الطريق، وهم ينتظرون أرباب المزارع، لعلهم يحصلون على فرصة عمل ليوم واحد»
إحدى نساء المخيم قالت لنا: «أظل أحياناً جالسة على قارعة الطريق لساعات حتى أفوز بفرصة عمل، ولكن العديد من أرباب العمل يرفضون تشغيلي بحجة أنني كبيرة ولا أنتج مثل الفتيات».
سألنا  طفلاً كان يلعب في المخيم: «أيهما تختار الدراسة أم العمل؟» رد علينا بعد برهة من الزمن: «أنا جوعان كيف بدي أدرس؟!! ما بدي الدراسة لأنني حتى لو درست فسأترك المدرسة بعد صف السادس وأساعد أهلي»
 عضو فرقة حزبية في المنطقة فضل عدم ذكر اسمه قال: «بصراحة لم نناقش أبداً أوضاع هؤلاء في اجتماعاتنا إلا مرة واحدة فقط، حين حدث إشكال بين عائلتين تطلب منا التدخل لحله، أما من ناحية النظر بوضعهم وإيجاد حلول وخدمات لهم، فلم يتم ذلك، والذين استفادوا هم التجار والمزارعون وأصحاب المحلات الذين زادت أرباحهم نتيجة هذه التجمعات».
 
لنا كلمة...
يبدو أن أوضاع «لاجئي» محافظة الحسكة ستستمر بالتدهور، فهم منعوا حتى من دفن موتاهم في مقابر تلك المناطق، أما أبناؤهم فهم محرومون من الدراسة، وهذا يعني أوتوماتيكياً ازدياد عدد الأميين في سورية، وازدياد عدد الفقراء أضعافاً عن الأرقام التي تطلقها الحكومة بين الفينة والأخرى، مما يدفعنا لتوجيه عشرات الأسئلة المهمة لها: إلى متى سيبقى هؤلاء يعيشون في هذا البؤس الرهيب؟ ألم يحن الوقت للاهتمام بمصير هذه العائلات التي تعيش في  أدنى مستويات المعيشة؟ ومن هو المسؤول الذي يتحمل مجرد الوقوف ولو لنصف دقيقة تحت خيمة من هذه الخيم التي تزداد معاناتها يوماً بعد آخر؟ وأين هي القرارات والإجراءات التي من المفترض أن تصدرها الجهات المعنية بمناصرة ومؤازرة هؤلاء المواطنين؟ وخاصة مجلس الشعب والحكومة و الجهات الوصائية كافة التي لم تحرك ساكناً حتى الآن.

معلومات إضافية

العدد رقم:
415