وجوه العيد شاحبة والنفوس مقبوضة أزمة دعم المازوت تلقي بظلالها على فرحة العيد
مع أن عيد الأضحى أضحى قاب قوسين وأدنى من الدخول علينا بعد أمسيات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، إلا أن حركة السوق من بيع وشراء في أدنى مستوى لها منذ أشهر عديدة، حيث تتفاقم الأزمات يوماً بعد يوم وتضعف القدرة الشرائية عند المواطن السوري. وأنا، كمواطن سوري، حالي هو حال العشرين مليوناً الآخرين، طبعاً باستثناء القلة القلية الذين يعلمون ما هم فاعلون، والذين بالعيد ومظاهره كل يوم يستأثرون، أنظر في المرآة فأستغرب شبحاً شاحباً ينتصب أمامي، تعلو وجهه إمارات البؤس والقهر والذل، وأنا هنا لا أستغرب بل أستنكر الحال المزرية التي وصلنا إليها كمواطنين سوريين، نتيجة صعوبة المعيشة والهم والقلق الدائم وانعدام الطمأنينة ليوم غد سعيد، وقد أصبحنا مجرد أشباح ذوي وجوه شاحبة، لا تتملكنا أية أحاسيس أو مشاعر، بل تحولنا إلى آلات تتحرك وتعمل دون الشعور بحاجة إلى الراحة والتنفس والانطلاق نحو يوم آخر مشرقين مقبلين على الحياة بنهم وحيوية، لا بل أصبحنا لا نشبه أنفسنا، فنحن بالأصل شعب يحب الحياة والأمن والاستقرار، ونبدع في خلق جماليات العيش وبساطته، وقد سُرِق منا كل ذلك بسبب الوضع المعيشي السيئ الذي يعيشه المواطن السوري على مساحة الوطن، بسبب السياسات الحكومية التي لم تؤد في المحصلة إلا للإضرار به، عن طريق التحكم السلبي بلقمة عيشه اليومية.
حالي هو حال من قابلتهم في شوارع مدينتي الكبيرة حيث رأيت أمثالي من الأشباح يجولون بين المحلات وعلى الأرصفة التي تفترشها بسطات الألبسة المختلفة، باحثين عن لباس جديد لأولادنا يفرحون به أيام العيد، إلا أن الآمال تبوء بالفشل دائماً، فالحركة والازدحام مجرد شكل ظاهري لسوق ما قبل العيد، بينما في الحقيقة فإن حركة البيع والشراء لمحال الألبسة تشهد حالة ركود لضعف القوة الشرائية عند المواطنين، إضافة لارتفاع أسعار الألبسة المفاجئ، الذي يقفز بين ليلة وضحاها قفزات غير متوقعة، حيث يستغل التجار هذه المناسبة لتحقيق أرباح فاحشة، بعيداً عن رقابة الدولة وضبطها للأسعار، بسبب تخليها عن دورها الرعائي للشأن العام، ويظهر هذا الاستغلال في أوضح صوره في مجال ألبسة الأطفال والسن المحير، حيث يعلم التجار أن الأهل في هذا الظرف المعيشي السيئ قد يستغنون عن شراء ملابس العيد لأنفسهم، بينما لا يستطيعون أن يكسروا خاطر أبنائهم، وهم مضطرون مهما كانت الظروف لشراء ملابس العيد لهم.
العيد في عيون المواطن السوري
جالت «قاسيون» في أسواق الألبسة، ورأينا الناس يخرجون من المحال فارغي الأيدي، وليس على أفواههم سوى التذمر والحسرة والمرارة وخيبة الأمل. وحول حركة البيع والشراء وأسعار الألبسة التقينا العديد من المواطنين الذين شرحوا لنا همهم ومعاناتهم، وحزنهم من اقتراب يوم العيد:
ـ المواطن أبو رائد قال: «كيف بدك إيانا نعيّد ونشتري لأولادنا ثياب جديدة ونحنا مو ملاقيين ثمن مازوت ندفئهم؟! فعندي أربعة أولاد صغيرهم في الصف الرابع وكبيرهم في الحادي عشر، وقد ذقنا الأمرين لتأمين مستلزماتهم المدرسية، والراتب لا يكفي أصلاً للأكل والشرب فقط، وأنا وأمهم بالأساس استغنينا عن شراء الألبسة التي لا نراها إلا كل أربع أو خمس سنوات، ولكن هؤلاء أطفال لا تستطيع أن تكسر خاطرهم، لا تستطيع أن تحرمهم فرحة شراء لباس جديد مخصص للعيد، والتجار عارفين هذه المعادلة، فرغم أن هناك اعتدال في أسعار الألبسة الرجالي والنسائي، إلا أن أسعار ملابس الأطفال نار كاوية، وقد ازدادت بشكل فجائي قبيل أيام العيد، وها قد قطعنا منتصف الشهر بأسبوع، المدة المحددة لانتهاء الراتب والمصروف، فمن أين سنُفرِح أولادنا بلباس جديد؟!!»
ـ بكثير من الحسرة وخيبة الأمل يتكلم الموظف أبو محمود عن معاناته ووضعه المعيشي الذي ينطبق على الكثيرين الذين يمثلهم، فيقول: «بعد هذه المهزلة التي عيّشتنا إياها الحكومة وضحكت عليما بموضوع بدل نقدي لدعم المازوت، الذي ما عرفنا نهايته كيف وأين أصبحت، منين بدنا نوفر ثمن ألبسة لأولادنا على العيد؟! فأنا كموظف حكومي تستهلك الوظيفة كل يومي، وقد وصلت إلى سن لا أستطيع معها البحث عن عمل إضافي وقد أمضيت ثلاثين عاماً أخدم هذه الدولة ولم تقدم لي وظيفتي سوى الجوع والحرمان، وأمضيت عمري مثل زملائي نركض واللقمة تركض أمامنا، والحكومة تعدنا بتحسين الوضع المعيشي وتحقيق أرقام نمو للبلد، ولكنهم لم يقدموا لنا سوى التراجع في كل شيء، ورفع الدعم عن المحروقات، وضعف القدرة الشرائية للراتب، وعلى هذا نسينا أن في الدنيا عيداً، ولم نفكر أصلاً بشراء ملابس جديدة لنا أو لأولادنا، إضافة إلى همِّنا الشاغل من أين سندبر ثمن المازوت للبرد والشتاء، فالعيد له أهله، وأصحاب القرارات كل يوم عندهم عيد».
رغم التخفيضات مازلنا جائعين وبردانين
ـ الموظفة عفاف تأخذ الأمور دائماً بروح رياضية، وتحاول إيجاد الأساليب التي تتغلب بها على صعوبات الحياة رغم متطلباتها الكثيرة وقالت: «لدينا راتبان في الأسرة، راتبي وراتب زوجي، ومع ذلك فلا أحد من المسؤولين يعلم كيف يمر الشهر علينا، فمع خمسة أولاد وكلهم يدرسون تزداد المتطلبات يوماً بعد يوم، ومعها تكبر الأعباء المالية، وهذا الارتفاع الكبير بأسعار المواد الغذائية والاستهلاكية والألبسة، جعلني أتوجه نحو محلات الألبسة المستعملة (البالة)، ومن هناك يمكنني تأمين ملابس لأولادي ولي ولزوجي بمبلغ لا يتجاوز الـ2000 ل.س، في حين قد أحتاج لشراء الألبسة الجديدة إلى ما يزيد عن عشرين ألف ليرة سورية، فصدق أن عيد المواطن السوري أصبح بالياً مثل لباسه الذي يشتريه من البالة، والأفضل أن نصمد ما ندخره ثمناً لدفء أيام الشتاء الباردة».
ـ الموظفة سعاد أيضاً لها مخططها في توفير ثمن الملابس للوقت المناسب فقالت: «أنا وزوجي موظفان، ومع ذلك نعجز عن تأمين الملابس لنا ولأولادنا إضافة إلى أعباء المدارس والمونة التي أكلت كل مدخرات الأسرة، وأنا أرى أن الوضع المعيشي يسوء عاماً بعد عام، فكل عيد نقول أنه سيكون أفضل من الذي قبله، ولكن للأسف تُفاجئنا الحكومة بمخططات وقرارات تقضي على أحلامنا وآمالنا، ومن أجل التحايل على تدبير الحال نلجأ للدخول في جمعية مع الزملاء في العمل أو الجيران في السكن، ونشترط على المشاركين فيها الذين يعرفون وضعنا أن يكون دورنا قريباً من العيد أو افتتاح المدارس، وهذه الجمعيات تعتبر قرضاً غير مستحق الفوائد، وبالتالي نشعر أنه ذو بركة ويمكن به أن نسد جانباً هاماً من المستلزمات والاحتياجات التي نحرم أنفسنا منها على مدار السنة، ويكون شراء الألبسة لنا ولأولادنا متعة وفرحة، حتى لو دفعنا ثمنها حرماناً وتقشفاً لأيام طويلة قادمة».
ـ المتقاعد أبو إسماعيل وصف لنا الحال بكثير من الدقة والإسهاب، وتحدث عن احتكارات التجار وعنجهية المهربين، الشريحتين اللتين هما العماد الأساسي للسياسة الجديدة للحكومة الرامية إلى تعويم السوق بالبضائع، ولكن بالمثل القائل (شم ولا تذوق). قال أبو إسماعيل حول ما يجري في السوق قبيل العيد: «تُفاجئنا دائماً اللافتات الكبيرة والملونة التي تشير إلى تخفيضات وحسومات على أسعار البضائع في السوق، وخاصة الألبسة، ونظن للوهلة الأولى أن تجارنا قد أخذتهم الشفقة علينا وأن ضمائرهم استفاقت، ولكن سرعان ما نجد أن هذا أسلوب جديد للضحك علينا، وجر أرجلنا نحو مجتمع استهلاكي صرف، عبر تطبيق تجارب جديدة للأسواق المفتوحة التي تعمل على إغراقنا بالبضائع المستوردة، والتي همها الأول والأخير القضاء على الصناعة الوطنية والاقتصاد الوطني، فأنا أنصح كل من يصل له صوتي بأن ينسى ثياب العيد لفترة، ويقاطع البضائع المستوردة، حتى وإن كانت رخيصة، فوجع ساعة ولا كل ساعة».
ـ المواطن حيان د. استنكر أصلاً وجود العيد في حياتنا فقال: «والله ما حدا له نفس ليفرح بقدوم العيد، ولا يفكر بشراء الألبسة الجديدة لأولاده، لأن النفوس مقبوضة، وشاعرين بخيبة أمل كبيرة لأننا صرنا مسخرة بموضوع دعم المازوت أمام دول العالم كله».
من المسؤول عن التلاعب بالأسعار؟
حول ظاهرة التخفيضات والحسومات، توجهنا إلى أبي عدنان، أحد باعة الألبسة بالمفرق، من أجل معرفة مضمون هذه الظاهرة، وأين مركز التحكم بالأسعار؟ ومن الذي يحدد نسبة التخفيضات؟ وما هي الحلقة الخفية في مسلسل رفع الأسعار ثم إعلان التخفيضات والحسومات، التي قد تفاجئنا كثيراً في ظاهرها، ولكنها في المضمون تُبقي الأسعار بعيدة عن متنازل الكثير من المواطنين.
ـ قال أبو عدنان: «نحن تجار مفرق، ونحن الحلقة الضعيفة وصلة الوصل بين المنتج والمستهلك، وليس من مصلحتنا أن تتوقف حركة البيع أو أن يتأفف المستهلك من الأسعار العالية، فهذا يسبب الخسائر لنا، وليس بيدنا تحديد الأسعار أو إجراء التخفيضات، فنحن أيضاً ضحية التجار الكبار وأصحاب مشاغل الخياطة، وتجار الجملة للألبسة يرفعون سعر الجملة علينا بشكل كبير خلال الأيام التي تسبق العيد، استغلالاً واحتكاراً، وقد يتغير السعر على الواجهة بين يوم وآخر لنفس القطعة إلى أكثر من الضعف، وحين تخف حركة البيع بسبب ارتفاع الأسعار، نضطر إلى التخلي عن جزء كبير من هامش الربح، إرضاء للزبائن وتحريكاً للسوق، كي لا تكسد البضاعة ونخسر ثمنها، فالمؤسسات الكبرى للتفصيل والخياطة لا تنتظر حتى تنفق بضائعنا، بل تُنزل إلى السوق كل يوم نموذجاً جديداً، ويجب علينا مجارات الموديل والموضة، وإلا فسنخسر لقمة عيشنا أيضاً ونغلق محلاتنا».
ـ أم سعيد قالت بغضب اللبوة المجروحة: «لا نريد ثياباً للعيد، لا نريد زينته وحلوياته وطقوسه التي كانت تجمع شمل الأسرة بفرح عارم، نريد الدفء لأولادنا أولاً وأخيراً، نريد المازوت ثم المازوت ثم المازوت، لماذا تخلت الحكومة عنا بهذا الشكل؟! أهكذا تكافئ المواطنين الذين صمدوا وصبروا عبر السنوات المريرة؟!».
ماذا بعد الفقر والحرمان ورفع الدعم؟
نعم هذه هي الحال التي وصل إليها مواطننا بسبب السياسات الليبرالية التي تنتهجها الحكومة، الساعية إلى القضاء على دور الدولة الرعائي للشأن العام، عبر رفع الدعم عن المواطن، وعن المواد الأساسية الضرورية لحياته المعيشية اليومية، وعبر خصخصة كل مرافق الحياة، بما فيها المسكن والملبس ولقمة العيش، وتسليمها لحيتان السوق الذين يتحكمون بخيرات البلاد ورزق العباد، ويعملون لتحقيق أرباح فاحشة دون وجه حق.
على الدولة أن تحذر من النتائج السيئة التي أوصتنا إليها هذه السياسات، وأن تستعيد دورها الرعائي، وتشجع الصناعة الوطنية وترعاها، وتفرض الرقابة على الأسعار، وتحددها بحيث تتناسب مع دخل الفرد، حتى يشعر المواطنون من جديد بالأمن والأمان والاستقرار، وفي هذا صون لكرامة الوطن والمواطن.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 430